(1) في ذلك العام كان والدي قد سجل لي زيارة بعد مضي ثلاثة سنوات بيننا ، ومكث معي اسبوعاً تجولنا فيه في الخرطوم ، واشتري لي ملابس جديدة ولبي طلباتي الصغيرة ، وعاد قاصداً ارتريا لمواصلة دوره النضالي ، وبعد شهور وصلتني رسالة غير متوقعة مكتوبة بخط واضح ، وكلمات مفهومة ، مضمونها يُعلمني بوجوده في مدينة خشم القربة ، وترك عنوانه للمراسلة اليدوية ، وكنت امر حينها بظروف عدم استقرار ، بعد فصلي من معهد التكينة الاسلامي ، مع بعض الزملاء للاسباب غير مقنعة اصدرتها الادارة ، فقد استدعينا من قبل المدير الاستاذ/ عبدالقادر ،و بحضور نائبه الاستاذ /جلال الدين المراد ، والشيخ الجليل / محمد ادريس محمد علي بره ، وبلغونا اننا اقل من العمر المطلوب للبقاء بالمعهد ، وخيرونا بين خلاوي ثلاثة (التي ـ كترانج ـ المسعودية ) فقد اخترت انا كترانج .
(2) بعد قراءة الرسالة خطرت لي فكرة اللحاق بالوالد ، وهذا لايتحقق بسهولة لان شيخنا محمد ادريس المسئول الفعلي لنا ، لايوافق حتى لو طلب ذلك الوالد بشحمه ولحمه ، وثم الحالة المالية صفرية ، ولذا المغادرة كانت اشبه بعملية عسكرية ، او اشبه بالهروب من سجن عسكري ، فرسمت الخطة وكنت انتظر ساعة الصفر ريثما اجد فقط سعر التذكرة من كترانج الي الخرطوم ، فالذي لا استحضره من اين حصلت علي المبلغ ؟؟ فلقد تمكنت علي ايجاد مقدار التذكرة او يزيد عنها قليلاً ، وعند منتصف النهار ، قطعت بالمعدية (البنطون ) باتجاه المسيد ، وفي الشاطئ الاخر قابلني زميلي المرحوم ادريس نور موسي علي محمد رحم الله فقد توفي لاحقا في بداية الالفية الحالية في لبنان ، وسالني عن وجهتي ؟ فرديت عليه ذاهب الي المسيد لغرض علي امل العودة قبل مغيب الشمس الي كترانج .
(3) وركبت بص التكينة ـ الخرطوم ذو اللون الاحمر ، من منطقة وسطي بين المسيد والتي ، حتي لا يعترضني أحد المسئولين في امبراطورية خلاوينا ، وصلت السوق العربي قبل مغيب الشمس ، وثم ركبت المواصلات الي السوق الشعبي ، وحجزت تذكرة لليوم التالي في بصات مؤسسة الجزيرة للمواصلات التي كانت حينها موديل سياحي ب(35 قرشاً) وبعد اداء صلاة العشاء ، ذهبت الي نادي رياضي بالقرب من السوق لمشاهدة المرئي ، وفي ذلك الزمان كان للتلفزيون نكهة خاصة ، وبعد مشاهدة جزء من البرامج ، خرجت الي موقف البصات ، عسي اجد مكان للمبيت ،واقضي فيه تلك الليلة ، وللاسف لم اتمكن من الحصول علي مكان للمبيت .
(4) فجائتني فكرة ، الطلوع الي سطوح (الاكشاك ) فانتظرت حتي تغلق كل الاكشاك فاخترت احداها قبل ان يعم الظلام عند اغلاق المحلات التجارية ، فتمكنت من الطلوع اعلاه ، فكنت قد جهزت بعض الكراتين والجوالات الفارغة بعضها للفراش والاخر للغطاء ، وانا أجهز المكان ناداني احد الشباب عمره في منتصف العشرينات وطلب مني النزول من الكشك ، فرفضت ، وقال لي انت تعرض نفسك للخطورة بالمبيت هنا ، وقلت له اتركني وشأني ، ان شاء الله يذبحوني انت مالك ومالي ، وقال لي هو ضابط دورية السوق ، وقلت له ضابط ولبسك ملكي ، واخرج لي مسدساً حتي يثبت لي صدقه ، فعاونني للنزول فقد تكبدت مشاق النزول رغم اني لم تواجهني مشكلة تذكر عند الطلوع . كان شاباً لطيفا جدا ، اصطحبني الي مكان زملائه في السوق وسلمني الي رئيسهم .
(5) طلب مني المسؤول اي مستند يثبت هويتي ، ولم أكن احمل اي اوراق ثبوتية ، مما اضطر في ادخالي استجواب (سين وجيم ) ، واعطيتهم معلومات مغلوطة حتي لا يعيدوني الي كترانج ، فذكرت لهم انا قادم من القضارف بالتقاطع رغم اني في الحقيقة لم اتجاوز الكاملين شرقاً ، فقلت لهم انا طالب (خلوة) جئت باحثا عن معهد لعلوم القران الكريم ، ولكن لم اوفّق ، وفضلت العودة الي أهلي في خشم القربة ، واخرجت لهم تذكرة السفر الي ود مدني كدليل قاطع لكلامي ، فطلب مني المسئول يرتدي زي عسكري للشرطة ما تيسر من القران الكريم ، فقرأت لهم بتلاوة خاشعة ، فرقت قلوبهم ، واكرموني وضيفوني بما تيسر لهم من أكل وشرب .
(6) ثم امر العسكري الذي انزلني من الكشك ان يوصلني الي مركز رئاسة الشرطة التي تحولت لاحقا الي مركز تدريب مستجدي الشرطة ، فعند البوابة عرفني بزملائه وعرض عليهم قصتي ، وبعد الترحيب طلب مني اعلي منهم رتبة قراءة ايات من القرءان الكريم ،ولكن هذه المرة هو الذي كان يبدأ الاية وانا اواصل فيها ، وشكروني بحرارة ، وثم سمح لنا بالتوجه الي دخول داخليات المعسكر ، واخرج لي سرير مفروش أمام التلفاز مع مجموعة من زملائه البوليس ، ومن كثرة التعب ما ان وضعت راسي علي المسند (المخدة) غصت في النوم ، ولم افق الا عند اذان الفجر ، وصليت الصبح في جماعة في مسجد المعسكر ، وخرجنا قبيل الشروق انا وصاحبي وشربنا شاي الحليب بالزلابية في موقف البصات ، وقبل الوداع نصحني اذا انقطعت في اي منطقة أسلم نفسي للاقرب مركز شرطة حفاظاً علي سلامتي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق