الثلاثاء، 27 مارس 2018

مواقف وطرائف الشمالية



(1)في عام 1985م ، قدم لي الاخ محمد أحمد امام مسجد قرية (قَدَوْ) دعوة لزيارتهم ، وانتهزت فرصة الاجازة نصف السنوية المدرسية ، وتحركت من مدرسة الجيلي الثانوية عبر قطار عطبرة ، لم أكن احمل شيئاً من المتاع ، غير صحيفة للتسلية ، وأجمل حاجة كنت ارتدي بدلة متكاملة بلون رمال الصحراء ، كانت هدية من خالي العزيز / محمد لجام أطال الله في عمره ، لبستها للاول مرة رغم مرور ما يقارب السنة تاجل ارتدائها بسبب اجواء السودان الحارة ، وكانت سانحة لاتعوض جاءت في فصل الشتاء ، ومن محطة الجيلي ودعني لفيف من زملاء الدراسة منهم شرف الدين الامين ، عمر فضل الله عمر، عبد الحميد محمد رملي ، ابراهيم عافة ، حماد موسي ، احمد ابراهيم (خميني) محمد صالح علي (امام مسجد المدرسة ) محمد عثمان لباب .. واخرين .
(2)رحلة القطار في ذلك الزمان تعجز الحروف سردها ، القطار عالم ملئ بالمفاجئات ، وعالم يحمل اجمل الذكريات ، فاول صدفة عالقة في ذهني التعامل الشفيف بين الناس ، في كل شئ ، في الصغيرة والكبيرة ، وقد وجدت كل اماكن الجلوس مكتظة في قاطرة الدرجة الثالثة ، فحجزت لنفسي مكان طرفي في زاوية علي مقربة من الباب ، لاحظت ان أغلب العيون تراقبني ، وبعد تجاوز عدة محطات صغيرة ، قام أحد الركاب وألح عليْ بالجلوس ، فكانت مقاعد العربة عبارة عن مصاطب خشبية ، ولما رأيت الرجل يكثر من الطلاق ، لبيت بالجلوس علي المقعد الذي يسع للاكثر من اربع اشخاص ، القطار كان عبارة عن مواصلات تربط مدن وقري وامصار الشمالية ، ففي كل محطة كان يتبادل الناس ادوار الصعود والنزول ، كل المحطات التي تقع مابين الجيلي وشندي قطعناها نهارا جهاراً في اجواء معتدلة ، واخذنا استراحة طويلة في محطة شندي ، تناولنا فيها الطعام والشاي وقضينا فيها الحاجة ، كانت محطة رائعة ، ولي فيها ذكريات لاتقدر بثمن تتجلي فيها خواطر السائح والشمس في مغربها تخفي ملافح الحسناوات لتخلد بسماتهن في القلب نورا وضياءً.
(3)نزل الليل بجلبابه الاسود يحجب الرؤية و نسير في نفق طويل ، لانري شيئا ، غير انوار متقطعة في افق بعيد ، ولانسمع الا حركة القطار واحتكاك محاوره بالسكة الحديدية ، عند التحرك تُطفئُ الانوار الداخلية ، فلا تعرف كيف حالة الاوضاع في القاطرة ، ولكن في الاغلب الناس تنام في اي مكان في الكَنب في الممرات جلوساً او استلقاءً او قرفصاءً، والبعض لايحس من الارهاق انه ينام متكئا علي جاره او عفشه ، وبعد تجاوزنا عدة قري ، كنت اسأل عن محطتي ، فالبعض يقول لي بدري عليك ، والبعض الاخر يطمئني أنه سوف يرشدني حال الوصول اليها ، ومع كل هذا كنت قلقا حتي لا تفوتني وحدسي يؤنبني ، وسبب تخوفي كان ناتج من وصية محمد احمد بأن القطار لايقف عندها وانما يهدئ السرعة وتسمي (سندة ) الناس تنزل والقطار ماشي ببطئ شديد.

(4) احد الركاب بلبس ( افرنجي) علي قول السودانيين ، كان الظاهر متضايق من اسئلتي المتكررة عن المحطة مما سقاني مقلباً قائلا: وصلت .. هذه سندة قدو واغلب الناس نيام ، وقفزت مسرعا خارج القطار قبل التأكد من بقية الركاب علي كوم رملة حتي غرقت فيها حد الركب ، وتحرك القطار وزاد من سرعته ، وأنا ابحث خارجه عن شخص للتأكد من المحطة ولم ينزل فيها احد وكذلك لم يصعد منها ، هرولت يمنا ويساراً لعلي اجد من يدلني ، ورأيت في مسافة ليست ببعيدة أضاءة خافتة ، وعندما وصلت لمكان انبعاث الضوء حينها كان القطار قد ولي و تجاوزت اخر قاطرة فيه حدا لايمكنني باللحاق به ، نزلت الي جماعة من الاعراب عددهم ثلاثة مستلقيين علي رمال الصحراء بالقرب من بص تقليدي (بص اللواري) ذي باب خلفي .
(5) بعد التحية والسلام ، سألتهم ما اذا كانت هذه محطة (قدو) ، قالوا : قدو ..؟ قلت : ايوا نعم .. يازول انت من وين ؟ قلت لهم انا من الخرطوم .. احدهم باغتني بضوء مصباح يدوي وقال .. يا أفندي .. أجلس خذ ليك راحة كدي وبعدين نشوف الحاصل ، قلت لهم : يعني ما في امكانية اصل الليلة قدو ؟! قال يازول قدو دي اقرب منها شندي .. بيّت ساي وصباح الله بخير ، وكنت مرهق من كثرة الوقوف ،وقلت لهم : طيب بلدكم دي اسمها ايه ولا اصلا دي ما قرية ؟ قال: لا البلد قريبة من هنا يعني جبدة كدي ، واسمها ديم القراي ، في البداية لم افطن الي مصدر روائح الدخان ، وبعد برهة هبت نسمة حولت اتجاه الريح لترمي بنفث مناخيرهم في أنفي مما أزعجني جداً ، وادخل صدمة نفسية ، سرت في دواخلي مشاعر من الخوف وهواجس النفس ، الرعب دخلني وتمكن مني بشل مفاصلي ، تحسست جيبي لاشعل سجارة ، وطارت من مزاجي حينما اختلف صنف دخانهم ، طريقة التدخين عندي كان سرياً جداً ، وطيلة الرحلة لم ادخن حتي لا أسقط من عين الناس ، معدل التدخين عندي حينها ثلاثة الي اربع سجارات ،والاغلب واحدة ، تدخين حسب الظروف .
(6) قال لي احدهم : يا أخونا الليلة الخميس وباكر الجمعة مافي وسيلة نقل الي اي منطقة عشان كدي تعال احسن ليك معانا ودي صدفة ما تعوض ، ونحن جايبين حاجات شبابية لكن ما بتلحق حاجات الخرطوم والحقها بضحكة ، وقلت في نفسي الظاهر السطلة بدت تسري فيهم ، وطلبت منهم وجهة القرية عشان اواصل المشي ، الاجواء ظلام حالك حتي اتجاه السكة حديد اصبح من الصعب تحديده ، ونحن علي ذلك الحال وانا واقف علي قدمي .. سمعت عن بُعد انين سيارة تجرف الرمال التى تغير شكل المنطقة في كل يوم ، اعتراني أمل بعودة الطمانينة ، والتخلص من شدائد الخوف ، وبعد دقائق انضم لوري وعلي متنه خمسة شباب معهم خروف وبعضا من لوازم السهرة ، وفهمت انها حقا ليلة سمر ، واطمئن قلبي بعض الشئ وخرجت من الدائرة المظلمة ، عرفوني بهم ، وحلفوا الطلاق علي بالجلوس ، وعبروا لي بالصدفة الجميلة ، ولكني طلبت منهم اذا كانوا حقا يريدون اكرامي ، يجب توصيلي الي مكان ارتاح فيه في قريتهم .
(7) فمن الشلة الجديدة انفرد بي احدهم ، وكان حقا شاب حبوب ولطيف ، ممتلئ الجسم ، تفوح من جسده عطر صابون لوكس ، ويلبس جلابية سمنية ، من التترون الاصلي ، فقال : لي يازول والله نحن سعيدين بيك وبالصدفة دي ،، واقول ليك دي فرصة حنجيب فيها حاجات وبعد شوية حتشوف المكان ماطاب ولذ ، وجايبين مفاجئات تانية احسن تشوفها بنفسك ، وقعد يضحك ويربت علي كتفي ، وقلت ليه والله يا أخي انا مُودي خبر وفاة لي ود عمي ، ساكن ومقطوع اخباره ليه زمن في بلدة (قدو) ونفسي قافلة من كل شئ انت لو تعزني ، وتحترموا ضيفكم ، وديني بيتكم وخلينى ارتاح انا لي اسبوع ما نمت من شدة السهر في العزاء .
(8) الزول تاثر وعزاني وعلي طول دوّر اللوري ، بحركة كابوية ، وقال لي اركب .. وبعد عشرة دقائق تقريباً من السير كانت تشير اليها ساعة يدي (الكوارتز) و التي لاتضئ ليلاً ، ساعة من ماركة (جنيفا ) مطلية بماء الذهب الخالص و فيها نصف جرام عيار واحد وعشرين ، ساعة قيمة ، تعود ملكيتها الي خالتى جمعية علي ، كانت قد كلفتني بها للصيانة من حلفا الجديدة ، في اخر عيد الاضحي ، واستغليت فترة وجودي في الخرطوم وقشرت بيها ، اوصلني ذلك الرجل الطيب الي دانقا بيته وعرفني بوالدته أولاً ، وقدم لي العشاء ثانياً ، وأخيراً انصرف معتذراً كل ذلك في دقائق لا تتعدي الربع ساعة .


(9) الشتاء يكتُم أنفاسه ، والليل حاشر في احشائه كل شئ ، والخوف والارهاق يلتف حولي ، كلها عناصر تدفئة ساعدتني ، عند الوصول للدار وعلي هدي انوار اللوري دخلت الديوان المتطرف دائماً ، وثم تناولت ابريقا مصنوعا من الصفيح وقعت عيني علي جانب منه خلف باب الزنك ، وهممت بالبحث لقضاء الحاجة ، الظلام كان كفيلا ان يعيدني القهققري لتناول علبة الاضاءة ، وانطفئت بمجرد تحريكها من مكانها ، فجلست علي عتب البيت في انتظار عودة صاحبي ، وجاء يحمل صينية بيد وصحن بيده الاخري ، يرافقه صبي يحمل ماء في جك من الالمونيوم ، واخرج زناداً من جيبه واشعل اللمبة ، وبلغته ما في نيتي ، وخرجنا سوياً وركز الاضاء لي بزناده في فرجة الحمام التقليدي المفتوح من الاعلي يقع علي زاوية منفرجة في اخر الدار ، غير مغلق مدخله ، مبنى بشكل دائري من الطوب الاخضر ، قضيت حاجتي بسرعة البرق ، وبدأت اتخيل خارطة الطريق الذي سوف اتبعها للوصول الي البيت ، وعندما خرجت من المرحاض ذاب الهَم لحظة رؤية الاضاءة .
(10) قدم لي الطعام علي صينية من الطلس المزخرف بتشكيلة الوان قوس قزح ، تبدو اثرية لقلت عليها من عهد عيزانا ، لولا خلوها من اسد يهوذا ، صحن (ام رقيقة ) من خامة الالمونيوم الخالص يتوسط كسرة مصنوعة من الفتريت مخلوط بالقليل من القمح الاحمر ، وبعد رفع بواقي الطعام عاد بشاي لبن في براد من الالمونيوم ، جاهز السكر ، وشربنا معاً ، وغادرني معتذراً ، كل ذلك لم يتعدي فترة ربع ساعة ، كان الديوان دافئاً ، وقد اخذتني غفوة النوم لم انتظر طويلاً بعد انصراف صاحبي ، باب الحجرة كان عكس الرياح وبات مفتوحاً كل الليل ، ولم افق من النوم الا علي اصوات شقشقة الطيور ، اخرجت راسي من تحت الملائة و الصبح يتنفس صقيع الشمال ، والماء يجمد الدم وتحركت خارج البيت اكتشف الاحوال ، الدار واسع جداً فيه بيوت متفرقة من الجالوص محمية بفواصل امام مداخلها رواكيب من حطب النيم وقصب او بعض عيدان اللوبيا العدسية ، الاشجار ليس كثيرة ولكن لايخلو دار من شجرة او شجرتين ، القرية كبيرة جدا تحتل منطقة جغرافية مترامية الاطراف ،لان الديار واسعة ، فكان ذلك الدار يقع في الجهة الغربية الشرقية منها ، التخطيط العمراني لم يصلها بعد ، فالشوارع ضيقة جدا بعضها ينتهي بك في مدخل منزل ، تسقي القرية عبر (القربة) المصنوعة من الجلد او مواد بلاستيكية ، تحملها الحمير وتجد اثار الماء تملأ الشوارع في كل فترات النهار .
(11) خرجتُ من الدار بصحبة (الدرديرى) وهذا اسم صاحبي ، علي الطريق العام خارج القرية ، فمكثنا وقتا طويلاً ولم نجد اي وسيلة الي منطقة كبوشية وهي الاقرب من المدن الحضرية لتلك القرية ، في يوم الجمعة كل الناس تصبح في منازلها ، يوم راحة بمعنى الكلمة صَمتٌ شديد ، الا السقايين وحدهم يعملون بكل كد واجتهاد ، عدنا من الطريق العام ، وتقريباً اغلب احياء القرية قد وصلناها باللوري ، اشاهد الناس وخاصة الجنس اللطيف يخرجن لمشاهدة دواعي مرور اللوري ، الحركة داخل القرية لابد لها من وجود مناسبة سعيدة او حزينة ، وبعد الرجال يوقفون و ثم يستفسرون عن الحاصل ، كان صاحبي باله طويل يجاملهم ، وفي حوالي العاشرة صباحاً وجد لي تراكتر يجر مقطورة رثة ، تحمل بعض براميل الوقود المطلية بالزيوت المتربة ، علي متنها سائق ومساعده ، وطلب منهم الدرديري توصيلي الي كبوشية ، وجلست في احدي الاطارين العملاقين ، وتحركنا والسرور يملأ صدري ، خرجنا من القرية في طريق ترابي لم يذق في حياته ماءً قط ، احيانا تغوص الاطارات الامامية بالمرة ، واحيانا نتوقف وندفع الساجات تحتها للخروج من وحل الرمال المتحركة ، وفي منتصف الطريق تعطل البابور ، ورياح الشتاء اشتدت ، وامتلات الجفون بالاتربة ، والرؤية اصبحت مؤلمة .

(12) جلست في طرف الطريق محتميا بشجيرة لم يتبق من التهام الرمال لها الا القليل ، فقام السائق و في لحاظه يضمر الشر .. وصرخ بأعلي صوته يا استاذ انت دافع حاجة عشان تقعد لي طرف وتتفرج علينا ؟ كان موقف ليس في الحسبان .. واردف قائلاً طلع هدومك المربط بيها نفسك دي ..وتعال شيل الكوريك دا واحفر ، واذا ما عجبك كلامي واصل طريقك ..!! ، لم يكن الا خيارا واحداً ، الالتزام باوامر اسد الصحراء ، طلّعت الكرفتة المُعِدة من الخرطوم بواسطة خبير من السوق الافرنجي ، وكذلك البدلة وملحقاتها الداخلية ، وبقيت بالقميص والبنطلون ، وبعد شوية كمان خارجت القميص وبقيت علي الفنيلة الداخلية ، وأصبحت.. لغة العمل ارفع الزيت ، وناولني المفتاح ، ادفع الي الامام ، ولم نتمكن من الاصلاح الا بعد ساعتين تقريباً ، كانت يدي متخستان ببواقي الزيت العائد ، البنطلون كان فيه بقع سوداء ،، ارتديت ملابسي بتصرف المُضطر ، وركبنا ولم نسير كثيرا فقد تعطل البابور للمرة الثانية ، واقترح علي السائق ان نترجل ونصل الي كبوشية ، علي ان يترك مساعده مع البابور ، بالتقريب المسافة كانت ساعة ونصف الساعة ، خارت فيها كل قواي ، من الجوع والتعب ، وتململ حذائي ، الجو كان معتدلاً نسبياً والرياح شبه انعدمت بعد الساعة الواحدة ظهراً .. المسافة لم تكن بعيدة وانما الرمال تعيق السير .
(13) وصلنا محطة كبوشية ، وانحشرنا اقرب مطعم وطلبنا وجبة من الفاصوليا والعدس ، ومن شدة الجوع وسخونة المعدة ، استفرغت بشدة ، رغم انني نادراً ما يأتيني القئ ، فانا من انصار النزلات المعوية ، أستلقيت علي فرش من السعف (برش) في جانب من المطعم يستخدم للصلاة ، فتركني السائق ومضي الي شأنه يبحث عن قطع غيار ، واذكر ان صاحب المطعم قد وفر لي ليمون ساعد في تحسن حالتي ، وفي الرابعة عصراً تحركت مترجلاً ،، متتبعاً مسار طريق السكة حديد حسب وصف وارشادات صاحب المطعم .
(14) عند تجاوز المطعم بمسافة ، انفتح أمامي عالم من العجائب لم اتخيل انه قريب من هذه المنطقة ، كان يحجب رؤيتها من المطعم مستودع ضخم ، وهو جزء من سلسلة مخازن المحطة ، انكشف البر الشرقي امام ناظري حامل اعظم حضارة في شمال افريقيا ، اهرامات البجراوية ، امبراطورية مروي العظيمة ، مما كان لها دور كبير في رفع معنوياتي ونسيان ما مضي من تعب وشقاء ، كان احساساً رائعاً يخال الي اني مكتشفها من دون خلق الله ، غنيت من شدة الفرح ، كنت اصيح بكل قوتي ، بالعربي والرطانة ، وعبرت كبري مشيد بالواح خشب السكك حديد ، مقام علي وادي رائع علي جنباته تنمو بعض الاشجار الصحراوية ، مخضرة من الجهة اليسري شاهدت بعض رؤس اشجار النخيل من علي الكبري ، اعتقد انها علي ضفاف النيل ، وكلما تقدمت الي الامام زادت غطاء الاشجار وخاصة من الجهة اليسرى ، الارض تكثر فيها اودية صغيرة ، وتتعدد التعرجات والتموجات من تربة صلبة .
(15) في طريقي وانا مستمتع بالمناظر الخلابة ، من اليمين الاهرامات ومن يساري خضرة الغطاء النباتي ، ظهرت لي حيوانات مفترسة لم تخطر لبالي ، كلاب باعداد كبيرة ، وكلما نبحت ازداد عددها ، تناولت بعضا من الحجارة ، وركزت نفسي للخروج من المأزق ، وطرء في بالي قصة الخال (راكي فكاك ) في الستينات في رحلة البحث عن العلم ، حينما تاه بعض رفاقه في الحدود بين السودان ومصر التهمتهم كلاب الصحراء .. ولخصت الحكاية في سؤال .. هل انا ايضا وقعت في نفس المشكلة ؟ وقررت النجاة .. وان لا استسلم .. فالحيوانات تحديها ليس بالعنف والقوة وانما بالحيل والمراوغة ، حاولت استدراجها الي الكبري الذي عبرته ، واقف انا في منتصفه ، وادافع عن نفسي ، واكتشفت في رحلة البحث عن مخرج كبري اخر لم اصله بعد ، فتحايلت غير مبالي ، وزدت من سرعة السير حتي وصلت بالسلامة الي ذلك الكبري ، وكلما اقترب احد من الكلاب اشير برمي كاذب من الحجارة ، وكلما نظرت الي اسفله كان يأتينى الدوار ، لان المسافة بين الارض والمعبر كان بعيداً .
(16) مع مرور الوقت تفرقت الكلاب واصبحت مشغولة بنفسها وتتلاعب مع بعضها البعض ولكنها لم تبارح المكان كليا فدور الحراسة كان يقظاً، وانا علي ذلك الحال خرج من بين الاشجار راعي اغنام ، ومعه ثلاثة كلاب متمرسة في الحفاظ علي البهائم ، تجيد ضراوة القتال ، واحجامهم تسر النفس والبال ممتلئة الاجسام ، الاذان شبيه بالقرون ، والاسنان نشاب يرتكزعلي قوس ، وحصلت معركة حامي الوطيس بين الكلاب البرية والكلاب الاليفة ، انتصرت فيها الاليفة وشتت شملهم في الغابة وفيافي الصحراء ، ولم اخرج من معتقلي الا بعد مناداة صاحب الاغنام الذي كان له دور في مساعدة كلابه ، ولوح لي بيده للخروج ولسان حاله يقول البلد أمان .
(17) حضنته بحرارة ، كحضن ابي وامي ، وأحسست بالندم جدا لحظتها ، علي الرحلة الغير مجدية التى عرضت نفسي لمخاطر غير لازمة ، كان الراعي متواضعا ، رجل في الثلاثينات يرعي اغنام بعض الاسر من قدو ، ملابسه نظيفة ولكنها تفتقد الي مراعاة ، فمن شدة لبسها بدأ جلبابه مطوي علي بعضه من الاسفل ، مرح تظهر علي وجه علامة الرضا والسرور ، وفرح اكثر حينما علم انني من اقارب شيخ محمد احمد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق