الثلاثاء، 27 مارس 2018

رحلة علي سطح القطار !


(1) تناولت من ذكرياتى الشخصية جوانب منها اكثر من مرة وفي مواقع مختلفة .. وهى غير مرتبة حسب الاسبقية الزمنية .. وقد عمدت الى ذلك حتى لا انسى المهم منها ، ومن السهل لاحقا ترتيبها واضافة ما تبقى من سردها .

(2) هناك مقولة تقول: (أن اجمل اللحظاب هى التى لم نعيشها بعد) وفي الحقيقة الذكريات (حلوة وجميلة ) لكل منا فى مراحل حياته لحظات جميلة واوقات ممتعة لاتنسى بصرف النظر عن حلوها ومرها ، تجعلك تجلس مع نفسك خلسة كلما سنحت لك الفرص تسترجعها وتستمتع باعادة ذكراها وبالرغم من مشاغل الحياة الكثيرة ومتطلباتها ، هناك محطات في رحلة قطار العمر نتوقف عندها ،تنعش ذاكرتنا بافراحها واحزانها ، وبعضها نمرعليها ولانتوقف فتصبح شريط ذكريات نتمني يوما نعيد العمر للوراء لنتوقف عندها .

(3) كانت عقارب الساعة تشير التاسعة مساء تقريبا ، والناس لتوها قد انهت صلاة العشاء كان ذلك فى خريف ١٩٧٩م نزلت من اللورى قادما من ود مدنى ، ورحلتى اصلا بدأتها من الخرطوم ، لا اعرف احدا فى المدينة ، ولم يحصل زرت القضارف ، دخلت مسجد السكة حديد وصليت بمفردي فى مسيده العشاء .. وبعد الانتهاء من الصلاة طلبت من الخفير الذي كان ينتظر خروجي فاجئته بالمبيت فى الجامع . وكانت لهجة لسانه تميل الى البداويت ، ورفض طلبي ، واستدعاني خارج المسجد واغلق باب السور باحكام وانصرف، وعندما تأكدت من صعوبة اقناعه ، طلبت منه ان يصف لى اقرب نقطة شرطة ، فاشار الى مباني ليست بعيدة كانت تنبعث منها كشافات ضوئية . (الشرطة لها قصة سوف نتطرق لها فى سرد اخر إن شاء الله) .

(4) وعندما اقتربت من المباني وجدت المدينة كلها هناك ، فساورني الشك ان تكون مركزا للشرطة ، وقبل الوصول الي المباني الرئيسية ، حالفني الحظ بسماع همسات شابين يتحدثان (لغة أمي) واقتربت وسلمت عليهما ، وسألتهم : هل هذا الذي أمامي مركز للشرطة ، وباستغراب شديد رد أحدهم سلامة ؟ قلت: لا أبداً سلامة أخوكم غريب في البلد وابحث عن مكان آمن للمبيت الليلة ، واردف الاخر طيب يا اخوي تسال عن لكوندة ولا مركز شرطة ، رديت عليه : معذرة ليس لدي مال وافضل مخفر الشرطة علي الاقل اضمن سلامة نفسي .

(5) رق قلبيهما علي حالي بعد سماع قصتي ، فقطعوا حديثهم واصطحبوني الي وسط المدينة ودخلنا فوالي ان لم تخنى الذاكرة هو " فوال الشعب صاحبه ـ ريقل سعيد " تناولنا معا وجبة الفول المصلح بالبيض والطعمية وهي وجبة ملحة جدا في أجواء الخريف ، مع الحديث الهادئ علمت من خلال الكلام ان تلك الجمهرة في محطة القطار كانت تنتظر القطار القادم من سنار ، والناس علي ذلك الحال ما يقرب الثلاثة ايام ، وفي تلك الحقبة لم يكن يربط القضارف ـ كسلا الا طريق ترابي يستعصي السير فيه في شهور نزول الامطار (الخريف) ينطبق عليه المثل السوداني ( يجي الخريف واللواري تقيف ) ، وجاتني فكرة امكانية السفر بالقطار الي القربة حيث وجهتي الرئيسية .

(6) بعد العشاء قال : لي احدهم " انت يا اخوى البلد دي كلها ما اهلك شنو شابكنا مركز شرطة ، اول مرة اسمع زول يفتش في مراكز شرطة للمبيت ، نحن زاتنا خفنا منك قلنا يمكن عامل جريمة وداير تسلم نفسك وصحك " وقهقهة قوية تعالت من الجميع حتي انا انبسطت من التوصيف ، وزاد الاخر انت في اي بلد لما تكون غريب دق اقرب بيت وفتش عن الديوان ، ما في أحد يضيايقك بالعكس سوف تجد الرعاية و المساعدة ، هسي ارحكا معانا ولو داير مركز شرطة امشي فتش ليك عسكري .. والابتسامة الساخرة تضئ وجهه قبلت خيار المبيت معهم والسرور يملأ قلبي .

(7) وتوجهنا الى الحي و الظلام سيد الموقف ، السماء كانت ملبدة بالغيوم ولكنها لم تمطر ، دخلنا الدار الذي يقع علي سفح تل كبير ، دخل احدنا الي القطية وهي منازل القضارف واضاء فانوس صغير فى جانب من البيت ، كان في البيت سريرين من الحطب (عنقريب) ، فيه شخص غارق في النوم ، نفض الملاية واعادها مرة اخري علي السرير واخرج اخري من تحت المرتبة ووضعها من فوق المخدة ، وشد عليه ناموسية من الدبلان الابيض ، لان الناموس في فصل الخريف يشتد تكاثرها وهى مسبب رئيسي للملاريا وقال : تفضل يا محمود الوقت للنوم ، بعد انصرافهم اعلقت باب القطية وطفيت اللمبة ، ويا نوم جاك زول .

(8) عند اذان الفجر ايقظني من يشاركني النوم داخل القطية وخرج ولم يعد ، وبعد ادائها عدت الكرة في النوم حتى علت الشمس من مشرقها ، وحضر زملائي اصحاب الضيافة ، وتناولتنا معا "شاى اللبن بالزلابية" وقدمت لي امراة خمسينية الاسئلة الروتينية وهي بطاقة تعريف عن نفسي ، وهي التى كانت تصنع (الزلابية) بنفسها واظن لغرض تجاري ، ولا اعرف علاقتها بالشابين ، وغادرنا الدار متوجهين الى سوق القضارف والمقصد محطة السكة حديد ، وقد علمت ان الحى اسمه ديم سواكن ، أما الشابين اسم أحدهما (جعفر) للاسف طول الفترة أسقطت الذاكرة اسم الاخر ، كلاهما في عمر واحد تقريبا يرتديان بناطلين شارلستون والراس افرو (خنفس) .

(9) عند مرورنا في الطريق كانت ثم اثار حرائق لحي كامل ، وكنت اظنها في البداية حرائق لطرد الناموس ، اوثم حريقة التهمت مساكن الناس ، وقد علمت لاحقا انها حقيقة بواقي اثار حريقة متعمدة في حادث مواجهات بين المواطنين والاثيوبيين ، تم ترحيلهم بعد الحريق الي منطقة خارج المدينة تسمي (تواوا) اقيمت علي انقاضها جامعة القضارف بعد عودة الاثيوبيين الي بلادهم عام 1991م ، بات الحي مهجورا لسنين واطلق عليه (المحروقة) وبعد التخطيط غيّر المواطنين المسمي الي (المعمورة) .تجولت في السوق ولم اترك شارعاً والا ركبته ، وحسيت بطني تضور جوعاً ، ولا أملك مليماً في جيبي ، وانا اهيم الدخول الي احد المقاهي واقدم نفسي (معلم الله ) ، تحسست عملة معدنية في الجيب الخلفي من ردائي الذي ارتديه تحت الجلابية ، فكفاني شر السؤال .

(10) أطلق القطارالساعة السابعة مساء تقريباً صفارة الاستعداد .. وانا لحظتها كنت ابحث عن زاوية او جانب من مكان احشر فيه نفسى بين امواج الناس العاتية . ولم اجد مكانا اقف فيه في الداخل واختنقت من كثرة الناس واشياؤهم وخرجت اتصبب عرقاً ، وكدت اتخلف عن الرحلة ، لولا مجيئ فكرة التسلق أعلى القطار ، فقررت رغم ان السطوح غير امن الا ان الامر كان يحتاج الي تضحية لانه في حالة التخلف عن الرحلة سوف تتعقد الامور ولا تتكرر رحلة القطار الا مرة واحدة في الشهر وانا لا املك المال ولا اعرف احدا فيها ، على كل حال تحرك القطار وانا بين افواج خلق الله وجدت مساحة للجلوس في السطوح ... وكان القطار قد بدأ يتحرك رويدا رويدا ، وثم انطلق يقطع السهول والغابات في سرعة مذهلة ، وكنت استمتع بالرحلة ، رغم الظلام الدامس ، كنت اجلس القرفصاء و يدي شبه ملتصقتان برجلي .. من شدة الزحمة !!. ومع طول الرحلة بدأت المساحات تتواضع وايضا البرد ساعدني في الاحتماء بالناس ،من الحظوظ سخر لى رجلا مسنا انقذني عندما تمايلت مع غفوة النوم من سقوط محقق من سطح القطار الى هاوية المجهول ،، وكان ينادى ابنه محمد وهو اسمه (بَرزى )ولم اسمع اسما قط يماثله من قبله او من بعده ... ولا انسي انه كان كريما معي فقد دعاني في تناول الطعام معهم من البيض والطعمية !

(11) مررت في طريقي بأهم محطة هي ( الشواك) أما البقية كانت سندة مسافر لايتوقف القطار عندها الا دقائق قلائل ثم يواصل المسير ، كان الليل سادل ظلامه في كل الارجاء ، وكنت اراقب كل شئ البعيد والقريب ، وكأني علي موعد مع اكتشاف جديد ، وكنت استمتع بضربات عجلات القطار ، وتثير فضولي كثرة عرباته التي تعانق بعضها البعض . كانت الناس فوق القطار اكثر من فى داخله .. وكانت حركتهم معتادة والبطاطير تملأ السطوح يخال اليك كأنك مسافر في فضاءات السماء للسمر بين الكواكب والنجوم ، وقد دخلنا مدينة خشم القربة قبل ان يلقي الليل ثيابه وتتعري الارض امام الشمس وتظهر للخلق مفاتنها .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق