(1) وصلنا محطة خشم القربة في الثلث الاخير من الليل ،علي متن القطار القادم من القضارف ، وتعتبر محطة القربة من
المحطات الرئيسية ، والتبادلية فهي تربط بين ثلاثة خطوط كسلا القضارف حلفا الجديدة
، نزلت من القطار والناس تفور وتندفع نحو الخارج بغزارة شديدة ، امتلأت الارض بالخلق
والامتعة ، وخلد كل شخص بالقرب من متاعه الي النوم ، يفترش الارض ، الاضاءة في
المحطة كانت الافضل من محطة القضارف ، الرؤية كانت واضحة ، وبالقرب من احدى
الابنية نظفت الارض من ظواهر الاشياء وعوالق الخريف ، واسندت جبهتي علي يدي اليمني بحثاً عن الراحة
والنوم ، غفوت في البداية فمن شدة الارهاق
والتعب لم اكترث لرطوبة الارض وللحشرات الصغيرة التي تتعاظم في فصل الخريف ، وأدخلت
رجلي تحت جلبابي وسحبت ايدي الي داخلها ولم اتمكن من راسي الذي بات ساحة اختراق
البعوض لمص دمي .
(2) تركت المكان وغيرت المكان بالقرب من
المظلة وشعرت بهواء دافئ ، لان الاجواء رغم رطوبة الارض كانت كاتمة ، حاولت النوم
مراراً ولكن البعوض والجوع كان لي بالمرصاد ، وانا علي ذلك الحال ، وجدت صندوقا
صغيرا واقعاً في الارض ورفعته لعله يكون لي سند تحت راسي يقيني من الرطوبة ، وكنت
محظوظاً حينما وجدت بداخله مجموعة من البسكويت ومن شدة الجوع جلست في الارض وبدأت
في التهام الواحدة تلو الاخري .. ولم احس بحالي حتي سقطت صريع نومٍ عميقٍ ، طلعت
الشمس والناس بعضها نائم وبعضها يقظ يرتب في اشيائه ، والبعض الاخرنشط يرفع امتعته في
اللواري ، قمت من مكاني وحولت الي كنب المظلة ، وثم عدلت عن الفكرة بدخول المدينة .
(3) شوارع المدينة عبارة عن خيران ، الارض صلدة رملية ، سرت مع حركة السيارات التي تدخل المدينة
، في الفترة الصباحية تقصدها الناس من
القري المجاورة ، وكذلك من منطقة سهل البطانة وفي المساء يخلو السوق من حركة الناس
الا بعض اماكن محدودة ، مئذنة مسجد المدينة
كان معلماً يغني كل زائر عن السؤال
، منذ صغري كل جديد يشد انتباهي ، فكنت أتأمل المباني حركة الناس ، شكل
الناس ، لغة الناس ، أعمال الناس ، وجدت منطقة القربة نسخة من المدن الارترية ، لم
اجد فرقاً كبيرا بين أم حجر وقلوج وتسني وعلي قدر ، فهناك ايضا قبل اللجوء الاسواق
كانت تكتظ بكل الاجناس منها الشكرية والفلاتة والتكرور .
(4)وصلت مسجد السوق ، والمسجد كان دائماً مايطمئن له قلبي ، وكنت شغوفاً
به ، وهو بيتى الذي تأسرني به مودة ورحمة ، وجدته مغلقاً ابوابه من السور الخارجي ، اغلب المحلات
أصحابها من عرب البطانة ، وكذلك القوة الشرائية واكتظاظ العملاء من العرب ، اغلب
المعروضات هي المواد الغذائية بمختلف اصنافها ،وكذلك الملابس وخاصة النساء والاطفال ، اكثر عنصر نسائي كان
للعرب ايضاً ، شعرت ان السوق منقسم حينما اتجهت شرقا فهناك الرواد اغلبهم ارتريين
، وسألت احد العاملين في مطعم عن قهوة صالح عافة ، وهو عنوان الوالد في رسالته ،
ودلني علي القهوة مشكوراً ، وحتي اصل القهوة كان يخيل لي ان والدي جالس فيها .
(5) وعند الاقتراب منها شاهدت اغلب الوجوه كأني اعرفها أو يعرفونني ، كنت احادثهم في
سري واقبل اياديهم في دواخلي ، دخلت برندة القهوة ، واعطيت نظرة سريعة وشاملة عن
القهوة فعلمت انها مفتوحة علي جانبين ،
واقتربت من احدهم رجل متقدم في العمر وسألته : هل هذه قهوة صالح عافة ؟ فلم
يفهم لغتي ، وعدلت عن السؤال فقررت الجلوس ولم اجد كرسيا خالياً ، فجلست في كنبة
من الخشب كان احدهم يجانبني والاخر في الاتجاه المقابل له ، رجلين في الستينات من
العمر تقريبا ، لاحظوا صمتي بقربهم ، فسأل الاخر وبلغة فهمت مضمونها من هذا الصبي الذي
يجلس بجوارك ؟ فرد عليه : لا اعرفه ، وقال له : جلس بقربك وكأنه يعرفك أساله لعلك
تجهله ألا يشبه ود فلان ؟ ، رد عليه :أجل
.. احتمال .. وسالني ود من انتا ؟ ففهمت المعني
وأجبت ود (عمر) وقال : عمر ود من ؟
.. اجبت ود محمد ؟ ، وتدخل الاخر عمر ود محمد ود فلان ود الفلاني ؟ أٌمْكا فلانتَا ؟ أجبت بالنفي .. واردفت (انا ما
بفهم كلامكم ) وثم ذكرت لهم باسمي كاملاً
.. اختصاراً للوقت .
(6) لم يتمكن الاثنين
معرفتي ، وحولوا الحوار فيما بينهم ، فهمت منه ، وكان حديثهم يدور حولي في شكل
سؤال وجواب (تحليل الشخصية ) صنفوني انا (ود عد) ، ولكن الذي لم يتمكنوا معرفته
(بالضبط) قبيلتي فقد وردت اسماء قبائل (ماريا .. بيت جوك .. في حديثهم) ، فقلت لهم انا لا انتمي الي تلك القبائل التي
ذكرتموها ، وسألتهم : هل هذه قهوة صالح عافة ؟ قالوا : أيوا رد
بالعربي ، يفهمونها ولكن الرد عليهم فيه
صعوبة ، واضفت هل هو موجود قال : .. لا ، محركا راسه واثني الاخر ، وقفت علي
حيلي ، وجهوا علي سؤال قبل الانصراف من اين
جئت ؟ قلت لهم من الخرطوم .. وبتعجب قالوا الاثنين معاً : من كرتوم !! .. قال
: يا جماعة لجنا لترجك هلا!! (بمعني الطفل يفتري ولا ايه ؟) .. وقال ثانياً : متى
وصلت ؟ جاوبت : اليوم الصباح بقطار القضارف ، وقال الذي يليني ..أجلس يا ابني ..وطلب لي
شاي مع رغيفة ، وهي الوجبة الصباحية
المعتادة .
(7) تهامس الرجلان من جديد فيما بينهم ، ووضعوا خطة استجواب جديدة ، وبعد فراغي
من الفطور ، طلبت منهم مكان لقضاء الحاجة ، فلم يكن ذلك سهلا ، فوصفوا لي موقع
خارج السوق ، او حمامات المسجد ، واستاذنت بالانصراف ، فكشف احدهم انني اتهرب منهم
، وسألني هل صالح عافة من اقربائك ؟ قلت له لا اعرفه ، مجرد عنوان ، قال : عن من تبحث ؟ قلت عن والدي .. ففكر وقال لي ما قبيلتك ؟
ذكرت له قبيلتي ، وكذلك منطقتي ، وكل ما يتعلق عن سيرة حياتي ، فهم الرجل مضمون
الكلام ، وقال لي : هل لك اقرباء هنا في القربة ؟ أجبتُ : لا ..ابداً لا اعرف احد هنا .. قال لي : هل لوالدك
شقيق اسمه (علي) قلت : نعم .. ولكن لم اره في حياتي علي الاطلاق ، قال : هل كان يعيش في قرية (13) الحدودية قلت اظن ذلك
، قال لي : هل تعرف اسماء اولاده قلت له : اتذكر ابراهيم ، قال : وصلت
مطرحك يا ابني .. أسرة عمك موجودة هنا في
المعسكر الجديد للاجئين .
(8) بعد اتفاق بيني وبينهم ، علي توصيلي الي اسرة عمي (عَلِي بره )
افترقنا علي ان نلتقي بعد صلاة الظهر في نفس القهوة ، وتحركت الي داخل القهوة بنية
الخروج منها من الباب الاخر ، القهوة هي لاتختلف في تصميم مبانيها عن الاخريات ،
ولا حتي فيما تقدمه من خدمات ، الا انها تختلف في مضامينها ، كانت عبارة عن لوحة
صامتة ، ومعرضاً رائعاً ،عن الثورة الارترية ، تقريباً ثلثي الجدران لملصقات
ملونة نادرة عن جبهة التحرير الارترية ، يستحضرني ملصق بطول
متر في متر للعلم الارتري قبل الاستقلال ،
وفي كل ورقة من غصن العلم صورة شهيد من
ابطال الثورة ، منهم الشهيد الرمز عواتي ، والشهيد القائد عمر ازاز ، واخرين لا
استحضر شخصياتهم ، وصور من اغلفة مجلة الثورة الارترية التي كانت تصدر من سوريا ،
ومقاتلين يحملون الرشاشات ومختلف الاسلحة الخفيفة والمتوسطة ،وتتوشح صدورهم بأشرطة
الرصاص ، كانت تثير فضولي ، وتجذبني
بشهية ،
كنت أومن انها وسيلة الخلاص من
كابوس الاستعمار .
وفي الموعد المحدد تقابلنا ، ولم نتقابل انا والعم صالح عافة الا بعد
مرور عام كامل ، بعد العودة مع الوالد من حلفا الجديدة ، بغرض زيارة الاقرباء منهم
اسرة العم علي بره ، واسرة وزيره وصديقه العم
محمد علي عول لباب ، والعم محمود ازاز ، والعم ابراهيم اونجر ، والعم
ابراهيم امحراي ، والعم ابراهيم اري وكٌثر لا يسع المجال ذكرهم .
ارقي انواع مكينات القهوة العالمية بجودة عالية ومتميزة جدا من خلال سفن سيل
ردحذفhttps://www.c7sale.com/coffee-machines/