الثلاثاء، 27 مارس 2018

قهوة صالح عافة بخشم القربة



(1) وصلنا محطة خشم القربة في الثلث الاخير من الليل ،علي متن  القطار القادم من القضارف  ، وتعتبر محطة القربة من المحطات الرئيسية ، والتبادلية فهي تربط بين ثلاثة خطوط كسلا القضارف حلفا الجديدة ، نزلت من القطار والناس تفور وتندفع نحو الخارج بغزارة شديدة ، امتلأت الارض بالخلق والامتعة ، وخلد كل شخص بالقرب من متاعه الي النوم ، يفترش الارض ، الاضاءة في المحطة كانت الافضل من محطة القضارف ، الرؤية كانت واضحة ، وبالقرب من احدى الابنية نظفت الارض من ظواهر الاشياء وعوالق الخريف ،  واسندت جبهتي علي يدي اليمني بحثاً عن الراحة والنوم  ، غفوت في البداية فمن شدة الارهاق والتعب لم اكترث لرطوبة الارض وللحشرات الصغيرة التي تتعاظم في فصل الخريف ، وأدخلت رجلي تحت جلبابي وسحبت ايدي الي داخلها ولم اتمكن من راسي الذي بات ساحة اختراق البعوض لمص دمي  .

(2)  تركت المكان وغيرت المكان بالقرب  من المظلة  وشعرت بهواء دافئ ، لان الاجواء رغم رطوبة الارض كانت كاتمة ، حاولت النوم مراراً ولكن البعوض والجوع كان لي بالمرصاد ، وانا علي ذلك الحال ، وجدت صندوقا صغيرا واقعاً في الارض ورفعته لعله يكون لي سند تحت راسي يقيني من الرطوبة ، وكنت محظوظاً حينما وجدت بداخله مجموعة من البسكويت ومن شدة الجوع جلست في الارض وبدأت في التهام الواحدة تلو الاخري .. ولم احس بحالي حتي سقطت صريع نومٍ عميقٍ ، طلعت الشمس والناس بعضها نائم وبعضها يقظ يرتب في اشيائه ، والبعض الاخرنشط يرفع امتعته في اللواري ، قمت من مكاني وحولت الي كنب المظلة ، وثم عدلت  عن الفكرة بدخول المدينة .

(3) شوارع المدينة عبارة عن خيران ، الارض صلدة  رملية ، سرت مع حركة السيارات التي تدخل المدينة ، في الفترة الصباحية تقصدها الناس  من القري المجاورة ، وكذلك من منطقة سهل البطانة وفي المساء يخلو السوق من حركة الناس الا بعض اماكن محدودة  ، مئذنة مسجد المدينة كان معلماً يغني كل زائر عن  السؤال ، منذ صغري كل جديد  يشد انتباهي ، فكنت أتأمل المباني حركة الناس ، شكل الناس ، لغة الناس ، أعمال الناس ، وجدت منطقة القربة نسخة من المدن الارترية ، لم اجد فرقاً كبيرا بين أم حجر وقلوج وتسني وعلي قدر ، فهناك ايضا قبل اللجوء الاسواق كانت تكتظ بكل الاجناس منها الشكرية والفلاتة والتكرور .

(4)وصلت مسجد السوق ، والمسجد كان دائماً مايطمئن له قلبي ، وكنت شغوفاً به ، وهو بيتى الذي تأسرني به مودة ورحمة ، وجدته مغلقاً  ابوابه من السور الخارجي ، اغلب المحلات أصحابها من عرب البطانة ، وكذلك القوة الشرائية واكتظاظ العملاء من العرب ، اغلب المعروضات هي المواد الغذائية بمختلف اصنافها ،وكذلك الملابس  وخاصة النساء والاطفال ، اكثر عنصر نسائي كان للعرب ايضاً ، شعرت ان السوق منقسم حينما اتجهت شرقا فهناك الرواد اغلبهم ارتريين ، وسألت احد العاملين في مطعم عن قهوة صالح عافة ، وهو عنوان الوالد في رسالته ، ودلني علي القهوة مشكوراً ، وحتي اصل القهوة كان يخيل لي ان والدي جالس فيها .

(5) وعند الاقتراب منها شاهدت اغلب الوجوه كأني اعرفها أو يعرفونني ، كنت احادثهم في سري واقبل اياديهم  في دواخلي ، دخلت برندة القهوة ، واعطيت نظرة سريعة وشاملة عن القهوة  فعلمت انها مفتوحة علي جانبين ، واقتربت من احدهم رجل متقدم في العمر وسألته : هل هذه قهوة صالح عافة ؟  فلم يفهم لغتي ، وعدلت عن السؤال فقررت الجلوس ولم اجد كرسيا خالياً ، فجلست في كنبة من الخشب كان احدهم يجانبني والاخر في الاتجاه المقابل له ، رجلين في الستينات من العمر تقريبا ، لاحظوا صمتي بقربهم ، فسأل الاخر وبلغة فهمت مضمونها من هذا الصبي الذي يجلس بجوارك ؟ فرد عليه : لا اعرفه ، وقال له : جلس بقربك وكأنه يعرفك أساله لعلك تجهله  ألا يشبه ود فلان ؟ ، رد عليه :أجل .. احتمال .. وسالني ود من انتا ؟ ففهمت المعني  وأجبت ود (عمر)  وقال : عمر ود من ؟ .. اجبت  ود محمد ؟  ، وتدخل الاخر عمر ود محمد ود فلان  ود الفلاني  ؟ أٌمْكا فلانتَا ؟ أجبت بالنفي .. واردفت (انا ما بفهم كلامكم )  وثم ذكرت لهم باسمي كاملاً .. اختصاراً للوقت  .

(6)  لم يتمكن الاثنين معرفتي ، وحولوا الحوار فيما بينهم ، فهمت منه ، وكان حديثهم يدور حولي في شكل سؤال وجواب (تحليل الشخصية ) صنفوني انا (ود عد) ، ولكن الذي لم يتمكنوا معرفته (بالضبط) قبيلتي فقد وردت اسماء قبائل (ماريا .. بيت جوك ..  في حديثهم)  ، فقلت لهم انا لا انتمي الي تلك القبائل التي ذكرتموها ، وسألتهم   : هل هذه قهوة صالح عافة ؟ قالوا : أيوا رد بالعربي  ، يفهمونها ولكن الرد عليهم فيه صعوبة ، واضفت هل هو موجود قال : .. لا ، محركا راسه واثني الاخر ، وقفت علي حيلي ، وجهوا علي سؤال قبل الانصراف  من اين جئت ؟ قلت لهم من الخرطوم ..  وبتعجب  قالوا الاثنين معاً : من كرتوم !!   .. قال : يا جماعة لجنا لترجك هلا!! (بمعني الطفل يفتري ولا ايه ؟) .. وقال ثانياً : متى وصلت ؟   جاوبت  : اليوم الصباح بقطار القضارف  ، وقال الذي يليني ..أجلس يا ابني ..وطلب لي شاي  مع رغيفة ، وهي الوجبة الصباحية المعتادة .

(7) تهامس الرجلان من جديد فيما بينهم ، ووضعوا خطة استجواب جديدة ، وبعد فراغي من الفطور ، طلبت منهم مكان لقضاء الحاجة ، فلم يكن ذلك سهلا ، فوصفوا لي موقع خارج السوق ، او حمامات المسجد ، واستاذنت بالانصراف ، فكشف احدهم انني اتهرب منهم ، وسألني هل صالح عافة من اقربائك ؟ قلت له لا اعرفه  ، مجرد عنوان  ، قال : عن من تبحث  ؟ قلت عن والدي .. ففكر وقال لي ما قبيلتك ؟ ذكرت له قبيلتي   ، وكذلك منطقتي  ، وكل ما يتعلق عن سيرة حياتي ، فهم الرجل مضمون الكلام ، وقال لي : هل لك اقرباء هنا في القربة ؟ أجبتُ : لا  ..ابداً لا اعرف احد هنا .. قال لي : هل لوالدك شقيق اسمه (علي) قلت : نعم .. ولكن لم اره في حياتي علي الاطلاق  ، قال : هل كان يعيش في  قرية (13) الحدودية  قلت اظن ذلك  ، قال لي : هل تعرف اسماء اولاده قلت له : اتذكر ابراهيم ، قال : وصلت مطرحك  يا ابني .. أسرة عمك موجودة هنا في المعسكر الجديد للاجئين .

(8) بعد اتفاق بيني وبينهم ، علي توصيلي الي اسرة عمي (عَلِي بره ) افترقنا علي ان نلتقي بعد صلاة الظهر في نفس القهوة ، وتحركت الي داخل القهوة بنية الخروج منها من الباب الاخر ، القهوة هي لاتختلف في تصميم مبانيها عن الاخريات ، ولا حتي فيما تقدمه من خدمات ، الا انها تختلف في مضامينها ، كانت عبارة عن لوحة صامتة ، ومعرضاً رائعاً ،عن الثورة الارترية ، تقريباً ثلثي الجدران لملصقات ملونة  نادرة  عن جبهة التحرير الارترية ، يستحضرني ملصق بطول متر في متر  للعلم الارتري قبل الاستقلال ، وفي كل ورقة  من غصن العلم صورة شهيد من ابطال الثورة ، منهم الشهيد الرمز عواتي ، والشهيد القائد عمر ازاز ، واخرين لا استحضر شخصياتهم ، وصور من اغلفة مجلة الثورة الارترية التي كانت تصدر من سوريا ، ومقاتلين يحملون الرشاشات ومختلف الاسلحة الخفيفة والمتوسطة ،وتتوشح صدورهم بأشرطة الرصاص  ، كانت تثير فضولي ، وتجذبني بشهية  ،  كنت أومن  انها وسيلة الخلاص من كابوس الاستعمار .
وفي الموعد المحدد تقابلنا ، ولم نتقابل انا والعم صالح عافة الا بعد مرور عام كامل ، بعد العودة مع الوالد من حلفا الجديدة ، بغرض زيارة الاقرباء منهم اسرة العم علي بره ، واسرة وزيره وصديقه العم  محمد علي عول لباب ، والعم محمود ازاز ، والعم ابراهيم اونجر ، والعم ابراهيم امحراي ، والعم ابراهيم اري  وكٌثر لا يسع المجال ذكرهم .

هناك تعليق واحد:

  1. ارقي انواع مكينات القهوة العالمية بجودة عالية ومتميزة جدا من خلال سفن سيل
    https://www.c7sale.com/coffee-machines/

    ردحذف