الجمعة، 30 مارس 2018

أحبوا بعضكم أولا..!




ما يؤلم الشجرة ليس الفأس ، ما يؤلمها حقا هو أن يد الفأس من خشبها !
كذلك الأوطان ما يؤلمها ليس المؤامرة الخارجية فقط .. وإنما من يقتلها ويدمرها من أبناء جلدتها ، صرخنا بصوت عالي نحبك يا وطن فأجاب : " أحبوا بعضكم أولا " ..!!

رأسوم سيوم من ارتريا يفوز بجائزة الحلم

أبايي أحمد .. واشواق نخب المعارضة الارترية



(1) في تغريدة له : أبايي أحمد  عن الشان الارتري ..الذي انتخبته تحالف النظام الحاكم في أثيوبيا  مؤخراً   قائلاً "  دعونا نبني بيننا جداراً من  الحب  " وهي عادة يلتجئ عليها النخب السياسية في اثيوبيا  كلما حاقت بهم الامور ، يستحضرني التوجه الجديد   للتحالف الاثني في اثيوبيا سبعينات القرن الماضي تحالف الانقلاب العسكري الذي نجح  الاطاحة  بالامبراطور هيلي سلاسي (قوة الله في الارض) ، وتلويحات امان عندوم  رئيس   التحالف العسكري  بان " القضية الارترية مفتاحها في يده" . 

(2) والمضحك المبكي ان تنجرف النخب الارترية المسلمة وتتخذ من الاسم (أحمد) مفتاحاً سحريا لحل مشكلة ارتريا ، حسب أشواقها ، وتوصيفه بالحاكم العادل .. النجاشي (احمد) ، وربطهم علاقات قطر باثيوبيا ، والاتفاق الامني والعسكرى بين اثيوبيا والسودان ، واتفاق تأهيل و نهضة  ميناء سواكن من قبل الاتراك آمالاً  تصب في مصلحة سيطرت الاسلاميين في المنطقة ،  والاطاحة بنظام اسمرا  في اقرب وقت ممكن ، ولتاكيد اهوائهم استدلوا بانتفاضة اخريا ، وببيان وزارة الاعلام الارترية الذي يتهم قطر بدعم الجماعات الاسلامية الارترية وتدريبها  لزعزعة الامن في ارتريا .

(3)  وللاسف الشديد حتي لو افترضنا  ان القراءة صحيحة ، فلا يمكن ان تكون الفئة الارترية المعنية طرفاً في المعادلة ، للاسباب ان حراك المنطقة كلها قائم علي صراع موارد والسيطرة علي مفاصل الاقتصاد ، عكس ما يتوهمون .. !  فعملية الحكم ما هي وسيلة للاهداف الرئيسية ، فلا نستثني تحالف النظام الارتري مع الطرف الاخر في المعادلة (السعودية والامارات ) وموقف اسرائيل وامريكا .. من محصلة الحراك .

(4) الحاصل في أثيوبيا صراع طبقي ، فلو دققنا النظرة .. سوف نجد اسماء التنظيمات (أرومو  ..أمحرا ... تقراي ... عفر .. وغيرها ) وهي الوجه الاخر للصراع القبلي ،، والاثني وقد كرست مجموعة الوياني الحاكمة سياسة فرق تسد  والاصطياد في الماء العكر ،، وهي نفس السياسة التي تتبعها الانظمة الامبريالية واسرائيل في منطقة الشرق الاوسط ، تفكيك الشعور العربي والاسلامي ، وابداله بالقومية والتشبث بحكم القبلية تحت مسميات متعددة .. الاضعاف قوة الشعوب والتفكير في ازالتها .

(5) وربط التحول الديمقراطي وتغيير الحكم في ارتريا بمآلات الامور في اثيوبيا سلبا وايجابا في اعتقادي تفكير (بليد  ومتخلف) ، فاثيوبيا حكومة وشعباً لم تتحرر بعد من عقلية الاستحواذ المبنية دوماً ان ارتريا جزءٌ أصيلٌ من اثيوبيا العظمي ، وانها الجزء الام لمهد جدودهم  وآبائهم   والجزء الاهم لبقاء حضارة أثيوبيا عبر الازمان والحقب .. ومفتاح الامان لوحدة اثيوبيا .

(6) لا ابالغ ان قلت لكم ان الشعب الاثيوبي لايعترف اغلبه بحرية ارتريا ، فلا يرون في الحكم الارتري  الامرضاً سوف يتعافي حينما تُستعيد الجزء المريض بعملية جراحية الي جسد الوطن ، ومن المستحن التفكير الجدي ، بعيداً عن الاهواء والعاطفية الزائدة ، ان التغيير في ارتريا لايتم بالتنكيل  والاقصاء لبعضنا البعض  ، والجري خلف سراب قُوي في مظهرها جلد الافعي وفي باطنها سم قاتل  ، يجب بناء الفكرة  ارترية خالصة ، والعمل بحكمة وتذليل العقبات باحتواء الخلافات السياسية وحلها في اطار وطني ، بعيدا عن التوجهات التي تفتح ثغرات تدخل  الدول والانظمة في الشان الارتري .

الثلاثاء، 27 مارس 2018

قهوة صالح عافة بخشم القربة



(1) وصلنا محطة خشم القربة في الثلث الاخير من الليل ،علي متن  القطار القادم من القضارف  ، وتعتبر محطة القربة من المحطات الرئيسية ، والتبادلية فهي تربط بين ثلاثة خطوط كسلا القضارف حلفا الجديدة ، نزلت من القطار والناس تفور وتندفع نحو الخارج بغزارة شديدة ، امتلأت الارض بالخلق والامتعة ، وخلد كل شخص بالقرب من متاعه الي النوم ، يفترش الارض ، الاضاءة في المحطة كانت الافضل من محطة القضارف ، الرؤية كانت واضحة ، وبالقرب من احدى الابنية نظفت الارض من ظواهر الاشياء وعوالق الخريف ،  واسندت جبهتي علي يدي اليمني بحثاً عن الراحة والنوم  ، غفوت في البداية فمن شدة الارهاق والتعب لم اكترث لرطوبة الارض وللحشرات الصغيرة التي تتعاظم في فصل الخريف ، وأدخلت رجلي تحت جلبابي وسحبت ايدي الي داخلها ولم اتمكن من راسي الذي بات ساحة اختراق البعوض لمص دمي  .

(2)  تركت المكان وغيرت المكان بالقرب  من المظلة  وشعرت بهواء دافئ ، لان الاجواء رغم رطوبة الارض كانت كاتمة ، حاولت النوم مراراً ولكن البعوض والجوع كان لي بالمرصاد ، وانا علي ذلك الحال ، وجدت صندوقا صغيرا واقعاً في الارض ورفعته لعله يكون لي سند تحت راسي يقيني من الرطوبة ، وكنت محظوظاً حينما وجدت بداخله مجموعة من البسكويت ومن شدة الجوع جلست في الارض وبدأت في التهام الواحدة تلو الاخري .. ولم احس بحالي حتي سقطت صريع نومٍ عميقٍ ، طلعت الشمس والناس بعضها نائم وبعضها يقظ يرتب في اشيائه ، والبعض الاخرنشط يرفع امتعته في اللواري ، قمت من مكاني وحولت الي كنب المظلة ، وثم عدلت  عن الفكرة بدخول المدينة .

(3) شوارع المدينة عبارة عن خيران ، الارض صلدة  رملية ، سرت مع حركة السيارات التي تدخل المدينة ، في الفترة الصباحية تقصدها الناس  من القري المجاورة ، وكذلك من منطقة سهل البطانة وفي المساء يخلو السوق من حركة الناس الا بعض اماكن محدودة  ، مئذنة مسجد المدينة كان معلماً يغني كل زائر عن  السؤال ، منذ صغري كل جديد  يشد انتباهي ، فكنت أتأمل المباني حركة الناس ، شكل الناس ، لغة الناس ، أعمال الناس ، وجدت منطقة القربة نسخة من المدن الارترية ، لم اجد فرقاً كبيرا بين أم حجر وقلوج وتسني وعلي قدر ، فهناك ايضا قبل اللجوء الاسواق كانت تكتظ بكل الاجناس منها الشكرية والفلاتة والتكرور .

(4)وصلت مسجد السوق ، والمسجد كان دائماً مايطمئن له قلبي ، وكنت شغوفاً به ، وهو بيتى الذي تأسرني به مودة ورحمة ، وجدته مغلقاً  ابوابه من السور الخارجي ، اغلب المحلات أصحابها من عرب البطانة ، وكذلك القوة الشرائية واكتظاظ العملاء من العرب ، اغلب المعروضات هي المواد الغذائية بمختلف اصنافها ،وكذلك الملابس  وخاصة النساء والاطفال ، اكثر عنصر نسائي كان للعرب ايضاً ، شعرت ان السوق منقسم حينما اتجهت شرقا فهناك الرواد اغلبهم ارتريين ، وسألت احد العاملين في مطعم عن قهوة صالح عافة ، وهو عنوان الوالد في رسالته ، ودلني علي القهوة مشكوراً ، وحتي اصل القهوة كان يخيل لي ان والدي جالس فيها .

(5) وعند الاقتراب منها شاهدت اغلب الوجوه كأني اعرفها أو يعرفونني ، كنت احادثهم في سري واقبل اياديهم  في دواخلي ، دخلت برندة القهوة ، واعطيت نظرة سريعة وشاملة عن القهوة  فعلمت انها مفتوحة علي جانبين ، واقتربت من احدهم رجل متقدم في العمر وسألته : هل هذه قهوة صالح عافة ؟  فلم يفهم لغتي ، وعدلت عن السؤال فقررت الجلوس ولم اجد كرسيا خالياً ، فجلست في كنبة من الخشب كان احدهم يجانبني والاخر في الاتجاه المقابل له ، رجلين في الستينات من العمر تقريبا ، لاحظوا صمتي بقربهم ، فسأل الاخر وبلغة فهمت مضمونها من هذا الصبي الذي يجلس بجوارك ؟ فرد عليه : لا اعرفه ، وقال له : جلس بقربك وكأنه يعرفك أساله لعلك تجهله  ألا يشبه ود فلان ؟ ، رد عليه :أجل .. احتمال .. وسالني ود من انتا ؟ ففهمت المعني  وأجبت ود (عمر)  وقال : عمر ود من ؟ .. اجبت  ود محمد ؟  ، وتدخل الاخر عمر ود محمد ود فلان  ود الفلاني  ؟ أٌمْكا فلانتَا ؟ أجبت بالنفي .. واردفت (انا ما بفهم كلامكم )  وثم ذكرت لهم باسمي كاملاً .. اختصاراً للوقت  .

(6)  لم يتمكن الاثنين معرفتي ، وحولوا الحوار فيما بينهم ، فهمت منه ، وكان حديثهم يدور حولي في شكل سؤال وجواب (تحليل الشخصية ) صنفوني انا (ود عد) ، ولكن الذي لم يتمكنوا معرفته (بالضبط) قبيلتي فقد وردت اسماء قبائل (ماريا .. بيت جوك ..  في حديثهم)  ، فقلت لهم انا لا انتمي الي تلك القبائل التي ذكرتموها ، وسألتهم   : هل هذه قهوة صالح عافة ؟ قالوا : أيوا رد بالعربي  ، يفهمونها ولكن الرد عليهم فيه صعوبة ، واضفت هل هو موجود قال : .. لا ، محركا راسه واثني الاخر ، وقفت علي حيلي ، وجهوا علي سؤال قبل الانصراف  من اين جئت ؟ قلت لهم من الخرطوم ..  وبتعجب  قالوا الاثنين معاً : من كرتوم !!   .. قال : يا جماعة لجنا لترجك هلا!! (بمعني الطفل يفتري ولا ايه ؟) .. وقال ثانياً : متى وصلت ؟   جاوبت  : اليوم الصباح بقطار القضارف  ، وقال الذي يليني ..أجلس يا ابني ..وطلب لي شاي  مع رغيفة ، وهي الوجبة الصباحية المعتادة .

(7) تهامس الرجلان من جديد فيما بينهم ، ووضعوا خطة استجواب جديدة ، وبعد فراغي من الفطور ، طلبت منهم مكان لقضاء الحاجة ، فلم يكن ذلك سهلا ، فوصفوا لي موقع خارج السوق ، او حمامات المسجد ، واستاذنت بالانصراف ، فكشف احدهم انني اتهرب منهم ، وسألني هل صالح عافة من اقربائك ؟ قلت له لا اعرفه  ، مجرد عنوان  ، قال : عن من تبحث  ؟ قلت عن والدي .. ففكر وقال لي ما قبيلتك ؟ ذكرت له قبيلتي   ، وكذلك منطقتي  ، وكل ما يتعلق عن سيرة حياتي ، فهم الرجل مضمون الكلام ، وقال لي : هل لك اقرباء هنا في القربة ؟ أجبتُ : لا  ..ابداً لا اعرف احد هنا .. قال لي : هل لوالدك شقيق اسمه (علي) قلت : نعم .. ولكن لم اره في حياتي علي الاطلاق  ، قال : هل كان يعيش في  قرية (13) الحدودية  قلت اظن ذلك  ، قال لي : هل تعرف اسماء اولاده قلت له : اتذكر ابراهيم ، قال : وصلت مطرحك  يا ابني .. أسرة عمك موجودة هنا في المعسكر الجديد للاجئين .

(8) بعد اتفاق بيني وبينهم ، علي توصيلي الي اسرة عمي (عَلِي بره ) افترقنا علي ان نلتقي بعد صلاة الظهر في نفس القهوة ، وتحركت الي داخل القهوة بنية الخروج منها من الباب الاخر ، القهوة هي لاتختلف في تصميم مبانيها عن الاخريات ، ولا حتي فيما تقدمه من خدمات ، الا انها تختلف في مضامينها ، كانت عبارة عن لوحة صامتة ، ومعرضاً رائعاً ،عن الثورة الارترية ، تقريباً ثلثي الجدران لملصقات ملونة  نادرة  عن جبهة التحرير الارترية ، يستحضرني ملصق بطول متر في متر  للعلم الارتري قبل الاستقلال ، وفي كل ورقة  من غصن العلم صورة شهيد من ابطال الثورة ، منهم الشهيد الرمز عواتي ، والشهيد القائد عمر ازاز ، واخرين لا استحضر شخصياتهم ، وصور من اغلفة مجلة الثورة الارترية التي كانت تصدر من سوريا ، ومقاتلين يحملون الرشاشات ومختلف الاسلحة الخفيفة والمتوسطة ،وتتوشح صدورهم بأشرطة الرصاص  ، كانت تثير فضولي ، وتجذبني بشهية  ،  كنت أومن  انها وسيلة الخلاص من كابوس الاستعمار .
وفي الموعد المحدد تقابلنا ، ولم نتقابل انا والعم صالح عافة الا بعد مرور عام كامل ، بعد العودة مع الوالد من حلفا الجديدة ، بغرض زيارة الاقرباء منهم اسرة العم علي بره ، واسرة وزيره وصديقه العم  محمد علي عول لباب ، والعم محمود ازاز ، والعم ابراهيم اونجر ، والعم ابراهيم امحراي ، والعم ابراهيم اري  وكٌثر لا يسع المجال ذكرهم .

مواقف وطرائف الشمالية



(1)في عام 1985م ، قدم لي الاخ محمد أحمد امام مسجد قرية (قَدَوْ) دعوة لزيارتهم ، وانتهزت فرصة الاجازة نصف السنوية المدرسية ، وتحركت من مدرسة الجيلي الثانوية عبر قطار عطبرة ، لم أكن احمل شيئاً من المتاع ، غير صحيفة للتسلية ، وأجمل حاجة كنت ارتدي بدلة متكاملة بلون رمال الصحراء ، كانت هدية من خالي العزيز / محمد لجام أطال الله في عمره ، لبستها للاول مرة رغم مرور ما يقارب السنة تاجل ارتدائها بسبب اجواء السودان الحارة ، وكانت سانحة لاتعوض جاءت في فصل الشتاء ، ومن محطة الجيلي ودعني لفيف من زملاء الدراسة منهم شرف الدين الامين ، عمر فضل الله عمر، عبد الحميد محمد رملي ، ابراهيم عافة ، حماد موسي ، احمد ابراهيم (خميني) محمد صالح علي (امام مسجد المدرسة ) محمد عثمان لباب .. واخرين .
(2)رحلة القطار في ذلك الزمان تعجز الحروف سردها ، القطار عالم ملئ بالمفاجئات ، وعالم يحمل اجمل الذكريات ، فاول صدفة عالقة في ذهني التعامل الشفيف بين الناس ، في كل شئ ، في الصغيرة والكبيرة ، وقد وجدت كل اماكن الجلوس مكتظة في قاطرة الدرجة الثالثة ، فحجزت لنفسي مكان طرفي في زاوية علي مقربة من الباب ، لاحظت ان أغلب العيون تراقبني ، وبعد تجاوز عدة محطات صغيرة ، قام أحد الركاب وألح عليْ بالجلوس ، فكانت مقاعد العربة عبارة عن مصاطب خشبية ، ولما رأيت الرجل يكثر من الطلاق ، لبيت بالجلوس علي المقعد الذي يسع للاكثر من اربع اشخاص ، القطار كان عبارة عن مواصلات تربط مدن وقري وامصار الشمالية ، ففي كل محطة كان يتبادل الناس ادوار الصعود والنزول ، كل المحطات التي تقع مابين الجيلي وشندي قطعناها نهارا جهاراً في اجواء معتدلة ، واخذنا استراحة طويلة في محطة شندي ، تناولنا فيها الطعام والشاي وقضينا فيها الحاجة ، كانت محطة رائعة ، ولي فيها ذكريات لاتقدر بثمن تتجلي فيها خواطر السائح والشمس في مغربها تخفي ملافح الحسناوات لتخلد بسماتهن في القلب نورا وضياءً.
(3)نزل الليل بجلبابه الاسود يحجب الرؤية و نسير في نفق طويل ، لانري شيئا ، غير انوار متقطعة في افق بعيد ، ولانسمع الا حركة القطار واحتكاك محاوره بالسكة الحديدية ، عند التحرك تُطفئُ الانوار الداخلية ، فلا تعرف كيف حالة الاوضاع في القاطرة ، ولكن في الاغلب الناس تنام في اي مكان في الكَنب في الممرات جلوساً او استلقاءً او قرفصاءً، والبعض لايحس من الارهاق انه ينام متكئا علي جاره او عفشه ، وبعد تجاوزنا عدة قري ، كنت اسأل عن محطتي ، فالبعض يقول لي بدري عليك ، والبعض الاخر يطمئني أنه سوف يرشدني حال الوصول اليها ، ومع كل هذا كنت قلقا حتي لا تفوتني وحدسي يؤنبني ، وسبب تخوفي كان ناتج من وصية محمد احمد بأن القطار لايقف عندها وانما يهدئ السرعة وتسمي (سندة ) الناس تنزل والقطار ماشي ببطئ شديد.

(4) احد الركاب بلبس ( افرنجي) علي قول السودانيين ، كان الظاهر متضايق من اسئلتي المتكررة عن المحطة مما سقاني مقلباً قائلا: وصلت .. هذه سندة قدو واغلب الناس نيام ، وقفزت مسرعا خارج القطار قبل التأكد من بقية الركاب علي كوم رملة حتي غرقت فيها حد الركب ، وتحرك القطار وزاد من سرعته ، وأنا ابحث خارجه عن شخص للتأكد من المحطة ولم ينزل فيها احد وكذلك لم يصعد منها ، هرولت يمنا ويساراً لعلي اجد من يدلني ، ورأيت في مسافة ليست ببعيدة أضاءة خافتة ، وعندما وصلت لمكان انبعاث الضوء حينها كان القطار قد ولي و تجاوزت اخر قاطرة فيه حدا لايمكنني باللحاق به ، نزلت الي جماعة من الاعراب عددهم ثلاثة مستلقيين علي رمال الصحراء بالقرب من بص تقليدي (بص اللواري) ذي باب خلفي .
(5) بعد التحية والسلام ، سألتهم ما اذا كانت هذه محطة (قدو) ، قالوا : قدو ..؟ قلت : ايوا نعم .. يازول انت من وين ؟ قلت لهم انا من الخرطوم .. احدهم باغتني بضوء مصباح يدوي وقال .. يا أفندي .. أجلس خذ ليك راحة كدي وبعدين نشوف الحاصل ، قلت لهم : يعني ما في امكانية اصل الليلة قدو ؟! قال يازول قدو دي اقرب منها شندي .. بيّت ساي وصباح الله بخير ، وكنت مرهق من كثرة الوقوف ،وقلت لهم : طيب بلدكم دي اسمها ايه ولا اصلا دي ما قرية ؟ قال: لا البلد قريبة من هنا يعني جبدة كدي ، واسمها ديم القراي ، في البداية لم افطن الي مصدر روائح الدخان ، وبعد برهة هبت نسمة حولت اتجاه الريح لترمي بنفث مناخيرهم في أنفي مما أزعجني جداً ، وادخل صدمة نفسية ، سرت في دواخلي مشاعر من الخوف وهواجس النفس ، الرعب دخلني وتمكن مني بشل مفاصلي ، تحسست جيبي لاشعل سجارة ، وطارت من مزاجي حينما اختلف صنف دخانهم ، طريقة التدخين عندي كان سرياً جداً ، وطيلة الرحلة لم ادخن حتي لا أسقط من عين الناس ، معدل التدخين عندي حينها ثلاثة الي اربع سجارات ،والاغلب واحدة ، تدخين حسب الظروف .
(6) قال لي احدهم : يا أخونا الليلة الخميس وباكر الجمعة مافي وسيلة نقل الي اي منطقة عشان كدي تعال احسن ليك معانا ودي صدفة ما تعوض ، ونحن جايبين حاجات شبابية لكن ما بتلحق حاجات الخرطوم والحقها بضحكة ، وقلت في نفسي الظاهر السطلة بدت تسري فيهم ، وطلبت منهم وجهة القرية عشان اواصل المشي ، الاجواء ظلام حالك حتي اتجاه السكة حديد اصبح من الصعب تحديده ، ونحن علي ذلك الحال وانا واقف علي قدمي .. سمعت عن بُعد انين سيارة تجرف الرمال التى تغير شكل المنطقة في كل يوم ، اعتراني أمل بعودة الطمانينة ، والتخلص من شدائد الخوف ، وبعد دقائق انضم لوري وعلي متنه خمسة شباب معهم خروف وبعضا من لوازم السهرة ، وفهمت انها حقا ليلة سمر ، واطمئن قلبي بعض الشئ وخرجت من الدائرة المظلمة ، عرفوني بهم ، وحلفوا الطلاق علي بالجلوس ، وعبروا لي بالصدفة الجميلة ، ولكني طلبت منهم اذا كانوا حقا يريدون اكرامي ، يجب توصيلي الي مكان ارتاح فيه في قريتهم .
(7) فمن الشلة الجديدة انفرد بي احدهم ، وكان حقا شاب حبوب ولطيف ، ممتلئ الجسم ، تفوح من جسده عطر صابون لوكس ، ويلبس جلابية سمنية ، من التترون الاصلي ، فقال : لي يازول والله نحن سعيدين بيك وبالصدفة دي ،، واقول ليك دي فرصة حنجيب فيها حاجات وبعد شوية حتشوف المكان ماطاب ولذ ، وجايبين مفاجئات تانية احسن تشوفها بنفسك ، وقعد يضحك ويربت علي كتفي ، وقلت ليه والله يا أخي انا مُودي خبر وفاة لي ود عمي ، ساكن ومقطوع اخباره ليه زمن في بلدة (قدو) ونفسي قافلة من كل شئ انت لو تعزني ، وتحترموا ضيفكم ، وديني بيتكم وخلينى ارتاح انا لي اسبوع ما نمت من شدة السهر في العزاء .
(8) الزول تاثر وعزاني وعلي طول دوّر اللوري ، بحركة كابوية ، وقال لي اركب .. وبعد عشرة دقائق تقريباً من السير كانت تشير اليها ساعة يدي (الكوارتز) و التي لاتضئ ليلاً ، ساعة من ماركة (جنيفا ) مطلية بماء الذهب الخالص و فيها نصف جرام عيار واحد وعشرين ، ساعة قيمة ، تعود ملكيتها الي خالتى جمعية علي ، كانت قد كلفتني بها للصيانة من حلفا الجديدة ، في اخر عيد الاضحي ، واستغليت فترة وجودي في الخرطوم وقشرت بيها ، اوصلني ذلك الرجل الطيب الي دانقا بيته وعرفني بوالدته أولاً ، وقدم لي العشاء ثانياً ، وأخيراً انصرف معتذراً كل ذلك في دقائق لا تتعدي الربع ساعة .


(9) الشتاء يكتُم أنفاسه ، والليل حاشر في احشائه كل شئ ، والخوف والارهاق يلتف حولي ، كلها عناصر تدفئة ساعدتني ، عند الوصول للدار وعلي هدي انوار اللوري دخلت الديوان المتطرف دائماً ، وثم تناولت ابريقا مصنوعا من الصفيح وقعت عيني علي جانب منه خلف باب الزنك ، وهممت بالبحث لقضاء الحاجة ، الظلام كان كفيلا ان يعيدني القهققري لتناول علبة الاضاءة ، وانطفئت بمجرد تحريكها من مكانها ، فجلست علي عتب البيت في انتظار عودة صاحبي ، وجاء يحمل صينية بيد وصحن بيده الاخري ، يرافقه صبي يحمل ماء في جك من الالمونيوم ، واخرج زناداً من جيبه واشعل اللمبة ، وبلغته ما في نيتي ، وخرجنا سوياً وركز الاضاء لي بزناده في فرجة الحمام التقليدي المفتوح من الاعلي يقع علي زاوية منفرجة في اخر الدار ، غير مغلق مدخله ، مبنى بشكل دائري من الطوب الاخضر ، قضيت حاجتي بسرعة البرق ، وبدأت اتخيل خارطة الطريق الذي سوف اتبعها للوصول الي البيت ، وعندما خرجت من المرحاض ذاب الهَم لحظة رؤية الاضاءة .
(10) قدم لي الطعام علي صينية من الطلس المزخرف بتشكيلة الوان قوس قزح ، تبدو اثرية لقلت عليها من عهد عيزانا ، لولا خلوها من اسد يهوذا ، صحن (ام رقيقة ) من خامة الالمونيوم الخالص يتوسط كسرة مصنوعة من الفتريت مخلوط بالقليل من القمح الاحمر ، وبعد رفع بواقي الطعام عاد بشاي لبن في براد من الالمونيوم ، جاهز السكر ، وشربنا معاً ، وغادرني معتذراً ، كل ذلك لم يتعدي فترة ربع ساعة ، كان الديوان دافئاً ، وقد اخذتني غفوة النوم لم انتظر طويلاً بعد انصراف صاحبي ، باب الحجرة كان عكس الرياح وبات مفتوحاً كل الليل ، ولم افق من النوم الا علي اصوات شقشقة الطيور ، اخرجت راسي من تحت الملائة و الصبح يتنفس صقيع الشمال ، والماء يجمد الدم وتحركت خارج البيت اكتشف الاحوال ، الدار واسع جداً فيه بيوت متفرقة من الجالوص محمية بفواصل امام مداخلها رواكيب من حطب النيم وقصب او بعض عيدان اللوبيا العدسية ، الاشجار ليس كثيرة ولكن لايخلو دار من شجرة او شجرتين ، القرية كبيرة جدا تحتل منطقة جغرافية مترامية الاطراف ،لان الديار واسعة ، فكان ذلك الدار يقع في الجهة الغربية الشرقية منها ، التخطيط العمراني لم يصلها بعد ، فالشوارع ضيقة جدا بعضها ينتهي بك في مدخل منزل ، تسقي القرية عبر (القربة) المصنوعة من الجلد او مواد بلاستيكية ، تحملها الحمير وتجد اثار الماء تملأ الشوارع في كل فترات النهار .
(11) خرجتُ من الدار بصحبة (الدرديرى) وهذا اسم صاحبي ، علي الطريق العام خارج القرية ، فمكثنا وقتا طويلاً ولم نجد اي وسيلة الي منطقة كبوشية وهي الاقرب من المدن الحضرية لتلك القرية ، في يوم الجمعة كل الناس تصبح في منازلها ، يوم راحة بمعنى الكلمة صَمتٌ شديد ، الا السقايين وحدهم يعملون بكل كد واجتهاد ، عدنا من الطريق العام ، وتقريباً اغلب احياء القرية قد وصلناها باللوري ، اشاهد الناس وخاصة الجنس اللطيف يخرجن لمشاهدة دواعي مرور اللوري ، الحركة داخل القرية لابد لها من وجود مناسبة سعيدة او حزينة ، وبعد الرجال يوقفون و ثم يستفسرون عن الحاصل ، كان صاحبي باله طويل يجاملهم ، وفي حوالي العاشرة صباحاً وجد لي تراكتر يجر مقطورة رثة ، تحمل بعض براميل الوقود المطلية بالزيوت المتربة ، علي متنها سائق ومساعده ، وطلب منهم الدرديري توصيلي الي كبوشية ، وجلست في احدي الاطارين العملاقين ، وتحركنا والسرور يملأ صدري ، خرجنا من القرية في طريق ترابي لم يذق في حياته ماءً قط ، احيانا تغوص الاطارات الامامية بالمرة ، واحيانا نتوقف وندفع الساجات تحتها للخروج من وحل الرمال المتحركة ، وفي منتصف الطريق تعطل البابور ، ورياح الشتاء اشتدت ، وامتلات الجفون بالاتربة ، والرؤية اصبحت مؤلمة .

(12) جلست في طرف الطريق محتميا بشجيرة لم يتبق من التهام الرمال لها الا القليل ، فقام السائق و في لحاظه يضمر الشر .. وصرخ بأعلي صوته يا استاذ انت دافع حاجة عشان تقعد لي طرف وتتفرج علينا ؟ كان موقف ليس في الحسبان .. واردف قائلاً طلع هدومك المربط بيها نفسك دي ..وتعال شيل الكوريك دا واحفر ، واذا ما عجبك كلامي واصل طريقك ..!! ، لم يكن الا خيارا واحداً ، الالتزام باوامر اسد الصحراء ، طلّعت الكرفتة المُعِدة من الخرطوم بواسطة خبير من السوق الافرنجي ، وكذلك البدلة وملحقاتها الداخلية ، وبقيت بالقميص والبنطلون ، وبعد شوية كمان خارجت القميص وبقيت علي الفنيلة الداخلية ، وأصبحت.. لغة العمل ارفع الزيت ، وناولني المفتاح ، ادفع الي الامام ، ولم نتمكن من الاصلاح الا بعد ساعتين تقريباً ، كانت يدي متخستان ببواقي الزيت العائد ، البنطلون كان فيه بقع سوداء ،، ارتديت ملابسي بتصرف المُضطر ، وركبنا ولم نسير كثيرا فقد تعطل البابور للمرة الثانية ، واقترح علي السائق ان نترجل ونصل الي كبوشية ، علي ان يترك مساعده مع البابور ، بالتقريب المسافة كانت ساعة ونصف الساعة ، خارت فيها كل قواي ، من الجوع والتعب ، وتململ حذائي ، الجو كان معتدلاً نسبياً والرياح شبه انعدمت بعد الساعة الواحدة ظهراً .. المسافة لم تكن بعيدة وانما الرمال تعيق السير .
(13) وصلنا محطة كبوشية ، وانحشرنا اقرب مطعم وطلبنا وجبة من الفاصوليا والعدس ، ومن شدة الجوع وسخونة المعدة ، استفرغت بشدة ، رغم انني نادراً ما يأتيني القئ ، فانا من انصار النزلات المعوية ، أستلقيت علي فرش من السعف (برش) في جانب من المطعم يستخدم للصلاة ، فتركني السائق ومضي الي شأنه يبحث عن قطع غيار ، واذكر ان صاحب المطعم قد وفر لي ليمون ساعد في تحسن حالتي ، وفي الرابعة عصراً تحركت مترجلاً ،، متتبعاً مسار طريق السكة حديد حسب وصف وارشادات صاحب المطعم .
(14) عند تجاوز المطعم بمسافة ، انفتح أمامي عالم من العجائب لم اتخيل انه قريب من هذه المنطقة ، كان يحجب رؤيتها من المطعم مستودع ضخم ، وهو جزء من سلسلة مخازن المحطة ، انكشف البر الشرقي امام ناظري حامل اعظم حضارة في شمال افريقيا ، اهرامات البجراوية ، امبراطورية مروي العظيمة ، مما كان لها دور كبير في رفع معنوياتي ونسيان ما مضي من تعب وشقاء ، كان احساساً رائعاً يخال الي اني مكتشفها من دون خلق الله ، غنيت من شدة الفرح ، كنت اصيح بكل قوتي ، بالعربي والرطانة ، وعبرت كبري مشيد بالواح خشب السكك حديد ، مقام علي وادي رائع علي جنباته تنمو بعض الاشجار الصحراوية ، مخضرة من الجهة اليسري شاهدت بعض رؤس اشجار النخيل من علي الكبري ، اعتقد انها علي ضفاف النيل ، وكلما تقدمت الي الامام زادت غطاء الاشجار وخاصة من الجهة اليسرى ، الارض تكثر فيها اودية صغيرة ، وتتعدد التعرجات والتموجات من تربة صلبة .
(15) في طريقي وانا مستمتع بالمناظر الخلابة ، من اليمين الاهرامات ومن يساري خضرة الغطاء النباتي ، ظهرت لي حيوانات مفترسة لم تخطر لبالي ، كلاب باعداد كبيرة ، وكلما نبحت ازداد عددها ، تناولت بعضا من الحجارة ، وركزت نفسي للخروج من المأزق ، وطرء في بالي قصة الخال (راكي فكاك ) في الستينات في رحلة البحث عن العلم ، حينما تاه بعض رفاقه في الحدود بين السودان ومصر التهمتهم كلاب الصحراء .. ولخصت الحكاية في سؤال .. هل انا ايضا وقعت في نفس المشكلة ؟ وقررت النجاة .. وان لا استسلم .. فالحيوانات تحديها ليس بالعنف والقوة وانما بالحيل والمراوغة ، حاولت استدراجها الي الكبري الذي عبرته ، واقف انا في منتصفه ، وادافع عن نفسي ، واكتشفت في رحلة البحث عن مخرج كبري اخر لم اصله بعد ، فتحايلت غير مبالي ، وزدت من سرعة السير حتي وصلت بالسلامة الي ذلك الكبري ، وكلما اقترب احد من الكلاب اشير برمي كاذب من الحجارة ، وكلما نظرت الي اسفله كان يأتينى الدوار ، لان المسافة بين الارض والمعبر كان بعيداً .
(16) مع مرور الوقت تفرقت الكلاب واصبحت مشغولة بنفسها وتتلاعب مع بعضها البعض ولكنها لم تبارح المكان كليا فدور الحراسة كان يقظاً، وانا علي ذلك الحال خرج من بين الاشجار راعي اغنام ، ومعه ثلاثة كلاب متمرسة في الحفاظ علي البهائم ، تجيد ضراوة القتال ، واحجامهم تسر النفس والبال ممتلئة الاجسام ، الاذان شبيه بالقرون ، والاسنان نشاب يرتكزعلي قوس ، وحصلت معركة حامي الوطيس بين الكلاب البرية والكلاب الاليفة ، انتصرت فيها الاليفة وشتت شملهم في الغابة وفيافي الصحراء ، ولم اخرج من معتقلي الا بعد مناداة صاحب الاغنام الذي كان له دور في مساعدة كلابه ، ولوح لي بيده للخروج ولسان حاله يقول البلد أمان .
(17) حضنته بحرارة ، كحضن ابي وامي ، وأحسست بالندم جدا لحظتها ، علي الرحلة الغير مجدية التى عرضت نفسي لمخاطر غير لازمة ، كان الراعي متواضعا ، رجل في الثلاثينات يرعي اغنام بعض الاسر من قدو ، ملابسه نظيفة ولكنها تفتقد الي مراعاة ، فمن شدة لبسها بدأ جلبابه مطوي علي بعضه من الاسفل ، مرح تظهر علي وجه علامة الرضا والسرور ، وفرح اكثر حينما علم انني من اقارب شيخ محمد احمد .

التحية للشرطة السودانية


(1) في ذلك العام كان والدي قد سجل لي زيارة بعد مضي ثلاثة سنوات بيننا ، ومكث معي اسبوعاً تجولنا فيه في الخرطوم ، واشتري لي ملابس جديدة ولبي  طلباتي الصغيرة ، وعاد قاصداً ارتريا لمواصلة دوره النضالي ، وبعد شهور وصلتني رسالة غير متوقعة  مكتوبة بخط واضح ، وكلمات مفهومة ، مضمونها يُعلمني بوجوده في مدينة خشم القربة ، وترك عنوانه للمراسلة اليدوية ، وكنت امر حينها بظروف عدم استقرار ، بعد فصلي من معهد التكينة الاسلامي ، مع بعض الزملاء للاسباب غير مقنعة اصدرتها الادارة ، فقد استدعينا من قبل المدير الاستاذ/ عبدالقادر ،و بحضور نائبه الاستاذ /جلال الدين المراد ، والشيخ الجليل / محمد ادريس محمد علي بره ، وبلغونا اننا اقل من العمر المطلوب للبقاء بالمعهد ، وخيرونا بين خلاوي ثلاثة (التي ـ كترانج ـ المسعودية ) فقد اخترت انا كترانج .

(2) بعد قراءة الرسالة خطرت لي فكرة اللحاق بالوالد ، وهذا لايتحقق بسهولة لان شيخنا محمد ادريس المسئول الفعلي لنا ، لايوافق حتى لو طلب ذلك الوالد بشحمه ولحمه ، وثم الحالة المالية صفرية ، ولذا المغادرة كانت اشبه بعملية عسكرية ، او اشبه بالهروب من سجن عسكري ، فرسمت الخطة وكنت انتظر ساعة الصفر ريثما اجد فقط سعر التذكرة من كترانج الي الخرطوم ، فالذي لا استحضره من اين حصلت علي المبلغ ؟؟ فلقد تمكنت علي ايجاد مقدار التذكرة او يزيد عنها قليلاً ، وعند منتصف النهار ، قطعت بالمعدية (البنطون ) باتجاه المسيد ، وفي الشاطئ الاخر قابلني زميلي المرحوم ادريس نور موسي علي محمد رحم الله فقد توفي لاحقا في بداية الالفية الحالية في لبنان ، وسالني عن وجهتي ؟ فرديت عليه ذاهب الي المسيد لغرض علي امل العودة قبل مغيب الشمس الي كترانج .

(3) وركبت بص التكينة ـ الخرطوم ذو اللون الاحمر ، من منطقة وسطي بين المسيد والتي ، حتي لا يعترضني أحد المسئولين في امبراطورية خلاوينا ، وصلت السوق العربي قبل مغيب الشمس ، وثم ركبت المواصلات الي السوق الشعبي ، وحجزت تذكرة لليوم التالي في بصات مؤسسة الجزيرة للمواصلات التي كانت حينها موديل سياحي ب(35 قرشاً) وبعد اداء صلاة العشاء ، ذهبت الي نادي رياضي بالقرب من السوق لمشاهدة المرئي ، وفي ذلك الزمان كان للتلفزيون نكهة خاصة ، وبعد مشاهدة جزء من البرامج ، خرجت الي موقف البصات ، عسي اجد مكان للمبيت ،واقضي فيه تلك الليلة ، وللاسف لم اتمكن من الحصول علي مكان للمبيت .

(4) فجائتني فكرة ، الطلوع الي سطوح (الاكشاك ) فانتظرت حتي تغلق كل الاكشاك فاخترت احداها قبل ان يعم الظلام عند اغلاق المحلات التجارية ، فتمكنت من الطلوع اعلاه ، فكنت قد جهزت بعض الكراتين والجوالات الفارغة بعضها للفراش والاخر للغطاء ، وانا أجهز المكان ناداني احد الشباب عمره في منتصف العشرينات وطلب مني النزول من الكشك ، فرفضت ، وقال لي انت تعرض نفسك للخطورة بالمبيت هنا ، وقلت له اتركني وشأني ، ان شاء الله يذبحوني انت مالك ومالي ، وقال لي هو ضابط دورية السوق ، وقلت له ضابط ولبسك ملكي ، واخرج لي مسدساً حتي يثبت لي صدقه ، فعاونني للنزول فقد تكبدت مشاق النزول رغم اني لم تواجهني مشكلة تذكر عند الطلوع . كان شاباً لطيفا جدا ، اصطحبني الي مكان زملائه في السوق وسلمني الي رئيسهم .

(5) طلب مني المسؤول اي مستند يثبت هويتي ، ولم أكن احمل اي اوراق ثبوتية ، مما اضطر في ادخالي استجواب (سين وجيم ) ، واعطيتهم معلومات مغلوطة حتي لا يعيدوني الي كترانج ، فذكرت لهم انا قادم من القضارف بالتقاطع رغم اني في الحقيقة لم اتجاوز الكاملين شرقاً ، فقلت لهم انا طالب (خلوة) جئت باحثا عن معهد لعلوم القران الكريم ، ولكن لم اوفّق ، وفضلت العودة الي أهلي في خشم القربة ، واخرجت لهم تذكرة السفر الي ود مدني كدليل قاطع لكلامي ، فطلب مني المسئول يرتدي زي عسكري للشرطة ما تيسر من القران الكريم ، فقرأت لهم بتلاوة خاشعة ، فرقت قلوبهم ، واكرموني وضيفوني بما تيسر لهم من أكل وشرب .

(6) ثم امر العسكري الذي انزلني من الكشك ان يوصلني الي مركز رئاسة الشرطة التي تحولت لاحقا الي مركز تدريب مستجدي الشرطة ، فعند البوابة عرفني بزملائه وعرض عليهم قصتي ، وبعد الترحيب طلب مني اعلي منهم رتبة قراءة ايات من القرءان الكريم ،ولكن هذه المرة هو الذي كان يبدأ الاية وانا اواصل فيها ، وشكروني بحرارة ، وثم سمح لنا بالتوجه الي دخول داخليات المعسكر ، واخرج لي سرير مفروش أمام التلفاز مع مجموعة من زملائه البوليس ، ومن كثرة التعب ما ان وضعت راسي علي المسند (المخدة) غصت في النوم ، ولم افق الا عند اذان الفجر ، وصليت الصبح في جماعة في مسجد المعسكر ، وخرجنا قبيل الشروق انا وصاحبي وشربنا شاي الحليب بالزلابية في موقف البصات ، وقبل الوداع نصحني اذا انقطعت في اي منطقة أسلم نفسي للاقرب مركز شرطة حفاظاً علي سلامتي .

مَنْ يَهُنْ يَسْهُلُ الْهَوَانُ عَلَيْهِ!




تصادفنا بين فينة واخري في الشبكة الاسفيرية ، بعد المظاهر السالبة التي تحاول النَّيل من مكتسبات شعبنا ، والتقليل من ثوابت الوطن ، فهؤلاء السفهاء صنفين الاول من عناصر الوياني والثاني من المرتزقة المأجورة ، وكلاهما وجهان لعملة واحدة ، فمن باب الحرص علي التنبيه لكل ابناء الوطن من هذين الصنفين التي تنحسر أعمالهم في ترويج الاكاذيب المغايرة للواقع وتشويه سمعة الوطن و تاريخ المناضلين ، والتشكيك في ثوابت وانجازات الثورة ، والادعاء بانجازات واهمة ، وتضليل الراي العام بتضخيم بعد الاخطاء ،و شق وحدة النسيج الاجتماعي ، وقتل الروح الوطنية في النشئ والشباب ، ونشر أمور انصرافية تعزز الهجرة والاغتراب ، كلها ارضية سالبة صالحة لبذرة فاسدة ، ففي ارتريا ثنائيات يحاول البعض ان يستغلها في تجييش عواطف الناس ، الديانتين الاسلام والمسيحية ، المنخفضات والمرتفعات ، الجبهة والشعبية ، علمي الفدرالية والاستقلال ، اللغتين العربية والتجرينية .
فالذين يروجون لحرق علم الاستقلال أو دوس كرامته تحت احذيتهم ونشر صور فضائحهم هي اشبه بمن ينشر صور الاباحية و انحرافاتهم الاخلاقية ، فقديماً قيل (اي كجل كجلوا اقلو ) بمعني الذي لايستحي وجب اخفاء عورته ، ولكل قاعدة شواذ ، فهؤلاء شُذاذ الافاق ، وشذاذ القوم ، ذلتهم افعالهم الخسة ، وعظم هوانهم فاصبحوا ممن قيل فيهم "من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت ايلام ".

رحلة علي سطح القطار !


(1) تناولت من ذكرياتى الشخصية جوانب منها اكثر من مرة وفي مواقع مختلفة .. وهى غير مرتبة حسب الاسبقية الزمنية .. وقد عمدت الى ذلك حتى لا انسى المهم منها ، ومن السهل لاحقا ترتيبها واضافة ما تبقى من سردها .

(2) هناك مقولة تقول: (أن اجمل اللحظاب هى التى لم نعيشها بعد) وفي الحقيقة الذكريات (حلوة وجميلة ) لكل منا فى مراحل حياته لحظات جميلة واوقات ممتعة لاتنسى بصرف النظر عن حلوها ومرها ، تجعلك تجلس مع نفسك خلسة كلما سنحت لك الفرص تسترجعها وتستمتع باعادة ذكراها وبالرغم من مشاغل الحياة الكثيرة ومتطلباتها ، هناك محطات في رحلة قطار العمر نتوقف عندها ،تنعش ذاكرتنا بافراحها واحزانها ، وبعضها نمرعليها ولانتوقف فتصبح شريط ذكريات نتمني يوما نعيد العمر للوراء لنتوقف عندها .

(3) كانت عقارب الساعة تشير التاسعة مساء تقريبا ، والناس لتوها قد انهت صلاة العشاء كان ذلك فى خريف ١٩٧٩م نزلت من اللورى قادما من ود مدنى ، ورحلتى اصلا بدأتها من الخرطوم ، لا اعرف احدا فى المدينة ، ولم يحصل زرت القضارف ، دخلت مسجد السكة حديد وصليت بمفردي فى مسيده العشاء .. وبعد الانتهاء من الصلاة طلبت من الخفير الذي كان ينتظر خروجي فاجئته بالمبيت فى الجامع . وكانت لهجة لسانه تميل الى البداويت ، ورفض طلبي ، واستدعاني خارج المسجد واغلق باب السور باحكام وانصرف، وعندما تأكدت من صعوبة اقناعه ، طلبت منه ان يصف لى اقرب نقطة شرطة ، فاشار الى مباني ليست بعيدة كانت تنبعث منها كشافات ضوئية . (الشرطة لها قصة سوف نتطرق لها فى سرد اخر إن شاء الله) .

(4) وعندما اقتربت من المباني وجدت المدينة كلها هناك ، فساورني الشك ان تكون مركزا للشرطة ، وقبل الوصول الي المباني الرئيسية ، حالفني الحظ بسماع همسات شابين يتحدثان (لغة أمي) واقتربت وسلمت عليهما ، وسألتهم : هل هذا الذي أمامي مركز للشرطة ، وباستغراب شديد رد أحدهم سلامة ؟ قلت: لا أبداً سلامة أخوكم غريب في البلد وابحث عن مكان آمن للمبيت الليلة ، واردف الاخر طيب يا اخوي تسال عن لكوندة ولا مركز شرطة ، رديت عليه : معذرة ليس لدي مال وافضل مخفر الشرطة علي الاقل اضمن سلامة نفسي .

(5) رق قلبيهما علي حالي بعد سماع قصتي ، فقطعوا حديثهم واصطحبوني الي وسط المدينة ودخلنا فوالي ان لم تخنى الذاكرة هو " فوال الشعب صاحبه ـ ريقل سعيد " تناولنا معا وجبة الفول المصلح بالبيض والطعمية وهي وجبة ملحة جدا في أجواء الخريف ، مع الحديث الهادئ علمت من خلال الكلام ان تلك الجمهرة في محطة القطار كانت تنتظر القطار القادم من سنار ، والناس علي ذلك الحال ما يقرب الثلاثة ايام ، وفي تلك الحقبة لم يكن يربط القضارف ـ كسلا الا طريق ترابي يستعصي السير فيه في شهور نزول الامطار (الخريف) ينطبق عليه المثل السوداني ( يجي الخريف واللواري تقيف ) ، وجاتني فكرة امكانية السفر بالقطار الي القربة حيث وجهتي الرئيسية .

(6) بعد العشاء قال : لي احدهم " انت يا اخوى البلد دي كلها ما اهلك شنو شابكنا مركز شرطة ، اول مرة اسمع زول يفتش في مراكز شرطة للمبيت ، نحن زاتنا خفنا منك قلنا يمكن عامل جريمة وداير تسلم نفسك وصحك " وقهقهة قوية تعالت من الجميع حتي انا انبسطت من التوصيف ، وزاد الاخر انت في اي بلد لما تكون غريب دق اقرب بيت وفتش عن الديوان ، ما في أحد يضيايقك بالعكس سوف تجد الرعاية و المساعدة ، هسي ارحكا معانا ولو داير مركز شرطة امشي فتش ليك عسكري .. والابتسامة الساخرة تضئ وجهه قبلت خيار المبيت معهم والسرور يملأ قلبي .

(7) وتوجهنا الى الحي و الظلام سيد الموقف ، السماء كانت ملبدة بالغيوم ولكنها لم تمطر ، دخلنا الدار الذي يقع علي سفح تل كبير ، دخل احدنا الي القطية وهي منازل القضارف واضاء فانوس صغير فى جانب من البيت ، كان في البيت سريرين من الحطب (عنقريب) ، فيه شخص غارق في النوم ، نفض الملاية واعادها مرة اخري علي السرير واخرج اخري من تحت المرتبة ووضعها من فوق المخدة ، وشد عليه ناموسية من الدبلان الابيض ، لان الناموس في فصل الخريف يشتد تكاثرها وهى مسبب رئيسي للملاريا وقال : تفضل يا محمود الوقت للنوم ، بعد انصرافهم اعلقت باب القطية وطفيت اللمبة ، ويا نوم جاك زول .

(8) عند اذان الفجر ايقظني من يشاركني النوم داخل القطية وخرج ولم يعد ، وبعد ادائها عدت الكرة في النوم حتى علت الشمس من مشرقها ، وحضر زملائي اصحاب الضيافة ، وتناولتنا معا "شاى اللبن بالزلابية" وقدمت لي امراة خمسينية الاسئلة الروتينية وهي بطاقة تعريف عن نفسي ، وهي التى كانت تصنع (الزلابية) بنفسها واظن لغرض تجاري ، ولا اعرف علاقتها بالشابين ، وغادرنا الدار متوجهين الى سوق القضارف والمقصد محطة السكة حديد ، وقد علمت ان الحى اسمه ديم سواكن ، أما الشابين اسم أحدهما (جعفر) للاسف طول الفترة أسقطت الذاكرة اسم الاخر ، كلاهما في عمر واحد تقريبا يرتديان بناطلين شارلستون والراس افرو (خنفس) .

(9) عند مرورنا في الطريق كانت ثم اثار حرائق لحي كامل ، وكنت اظنها في البداية حرائق لطرد الناموس ، اوثم حريقة التهمت مساكن الناس ، وقد علمت لاحقا انها حقيقة بواقي اثار حريقة متعمدة في حادث مواجهات بين المواطنين والاثيوبيين ، تم ترحيلهم بعد الحريق الي منطقة خارج المدينة تسمي (تواوا) اقيمت علي انقاضها جامعة القضارف بعد عودة الاثيوبيين الي بلادهم عام 1991م ، بات الحي مهجورا لسنين واطلق عليه (المحروقة) وبعد التخطيط غيّر المواطنين المسمي الي (المعمورة) .تجولت في السوق ولم اترك شارعاً والا ركبته ، وحسيت بطني تضور جوعاً ، ولا أملك مليماً في جيبي ، وانا اهيم الدخول الي احد المقاهي واقدم نفسي (معلم الله ) ، تحسست عملة معدنية في الجيب الخلفي من ردائي الذي ارتديه تحت الجلابية ، فكفاني شر السؤال .

(10) أطلق القطارالساعة السابعة مساء تقريباً صفارة الاستعداد .. وانا لحظتها كنت ابحث عن زاوية او جانب من مكان احشر فيه نفسى بين امواج الناس العاتية . ولم اجد مكانا اقف فيه في الداخل واختنقت من كثرة الناس واشياؤهم وخرجت اتصبب عرقاً ، وكدت اتخلف عن الرحلة ، لولا مجيئ فكرة التسلق أعلى القطار ، فقررت رغم ان السطوح غير امن الا ان الامر كان يحتاج الي تضحية لانه في حالة التخلف عن الرحلة سوف تتعقد الامور ولا تتكرر رحلة القطار الا مرة واحدة في الشهر وانا لا املك المال ولا اعرف احدا فيها ، على كل حال تحرك القطار وانا بين افواج خلق الله وجدت مساحة للجلوس في السطوح ... وكان القطار قد بدأ يتحرك رويدا رويدا ، وثم انطلق يقطع السهول والغابات في سرعة مذهلة ، وكنت استمتع بالرحلة ، رغم الظلام الدامس ، كنت اجلس القرفصاء و يدي شبه ملتصقتان برجلي .. من شدة الزحمة !!. ومع طول الرحلة بدأت المساحات تتواضع وايضا البرد ساعدني في الاحتماء بالناس ،من الحظوظ سخر لى رجلا مسنا انقذني عندما تمايلت مع غفوة النوم من سقوط محقق من سطح القطار الى هاوية المجهول ،، وكان ينادى ابنه محمد وهو اسمه (بَرزى )ولم اسمع اسما قط يماثله من قبله او من بعده ... ولا انسي انه كان كريما معي فقد دعاني في تناول الطعام معهم من البيض والطعمية !

(11) مررت في طريقي بأهم محطة هي ( الشواك) أما البقية كانت سندة مسافر لايتوقف القطار عندها الا دقائق قلائل ثم يواصل المسير ، كان الليل سادل ظلامه في كل الارجاء ، وكنت اراقب كل شئ البعيد والقريب ، وكأني علي موعد مع اكتشاف جديد ، وكنت استمتع بضربات عجلات القطار ، وتثير فضولي كثرة عرباته التي تعانق بعضها البعض . كانت الناس فوق القطار اكثر من فى داخله .. وكانت حركتهم معتادة والبطاطير تملأ السطوح يخال اليك كأنك مسافر في فضاءات السماء للسمر بين الكواكب والنجوم ، وقد دخلنا مدينة خشم القربة قبل ان يلقي الليل ثيابه وتتعري الارض امام الشمس وتظهر للخلق مفاتنها .

القرية 6 الحصا




(1) في خريف عام 1979 عصراً ، وفي يوم مشمس كنت العب مع اطفال معسكر خشم القربة للاجئين الارتريين اقيم حديثا من خيام مؤقتة ، امتدادا للمعسكر القديم الذي شيد عام 1967 ، وبدون سابق موعد وجدت امامي خالتي (جَمع) أم ناصر ، الله يطراها بالخير ، هذا بعد سبعة سنوات من الفراق تقريباً .. فعدت مسرعاً الى عمى (علي ) ابو زينب عليه الرحمة والمغفرة ، الذي كان يجلس في طرف الخيمة محتمياً بظلها الذي أوجد لكل افراد العائلة مساحة للجلوس خارج الخيمة ، وقلت له : عمي ياعمي .. أنظر تلك الفتاة القادمة هي خالتي .. فقال لي : يا ابني اصبر حتي تلقي عليك التحية وتتأكد منها ان كانت هي او غيرها .. فلا تجرفك العواطف و الاشواق ،، فلم انتظر حتي يكمل كلامه .. وقفزت عليها مسرعاً ، فعانقتني بحرارة ، وسقطنا معا علي الارض واجهشنا معاً بالبكاء ، فعليه الرحمة تعجب وقال: لقد اصبت يابني .

(2) كان لقاء تاريخياً مع خالتي التى تكبرنى بعشر سنوات تقريباَ ، فقد ربينا معاً ، وتركت البلاد وهاجرت الي السودان ، كسائر الشباب الارتري الذي كان معرضا للانتهاكات الاستعمارية ، فلم تكن هناك خيارات الا اثنين وهما الالتحاق بالثورة او ترك الديار والهجرة خارج الوطن ، قضينا تلك الليلة في جو من المرح يملاها الغبطة والسرور ، لا اعرف .. ماذا كنا نفترش تحت سقف خيمة من القماش لاتتعدى سعتها المترين ونصف المتر ، مع اسرة عدد افرادها الحاضرين منها خمسة بالاضافة انا وخالتي الضيفة ، ولكن ما اعلمه انها كانت مليئة بالحب والحنان والرحمة والرضوان ، وفي تلك الليلة استعصمت السماء عن المعصرات ، فاكتفت بالتلويح عن بعد ، وكانت فرصة لتجمع بقية الجيران والخروج الي الهواء الطلق يتدفئون بنار التقابة التى تتوسط الدائرة ، وتنبعث منها الضياء وهو المصدر الوحيد للاضاءة ، وكانت احاديثهم ذكريات الوطن المسلوب مع ايقاعات الالحان الشجية من المعشو والجفرا ، وتفاصيل اخري لايتسع المجال في الوقت الحاضر لذكرها .

(3) في باكر الصباح تناولنا الشاي بعد العودة ( انا وعمي) من حمام قبل اذان الفجر في البحر الذي يقع علي مسافة لا تتجاوز ربع كيلومتر تقريباً ، وهو روتين صباحي ملزم ، في حالة وجود عمي ، فقد مكثت ما يقرب الشهر علي ذلك المنوال ، فالايام الاولي كنت اتضايق ولكن بعد مرور ايام تعودت علي الحالة ، حتى اصبح حمام الصباح من افضل الاوقات ، انظلقنا انا و خالتي الى موقف حلفا الجديدة ، فلم نجد سيارة تقلنا الا بعد منتصف النهار ، وعند شجرة عملاقة مقابل المدرسة الثانوية العامة ، قضينا جل الوقت وشاركنا المقيل في ذلك اليوم الخال ابراهيم خليفة ،وبعدها تحركنا من القربة عند الواحدة ظهرا تقريباً ، توقف البص المحلي الصنع ، عند محطة القرية 6 الحصا ، ونزلنا وواصلنا بقية المشوار الي داخل الحلة مشياً علي الاقدام ، وكان اول دار دخلناها اسرة الخال سعيد علي بخيت امد الله في عمره ، وزجته المرحومة فاطمة ابراهيم حمد ، لها الرحمة والمغفرة ،والتي توفيت لاحقاً في مستشفي حلفا الجديدة اثناء الولادة ، وتركت ثلاثة اطفال ولد وبنتين ، وقد امتنع الخال عن الزواج مطلقاً وتفرغ لتربية ابنائه بنفسه .

*الصورة تعود الي عام2012 بمناسبة عقد قران الاخ خالد محمد علي هنقلا ، علي ابنة بن عمي الاخ عثمان محمد نور أمد الله في عمره .. وتحياتي للاخ عبدالرحمن ابراهيم صالح الذي كان له الفضل في التوثيق .