(1)
وكما أسلفت الذكر في الحلقة الاولي ، هذه
الحلقات هي نتف ماتبقي ما في الذاكرة قابلة
للاضافة والتعديل ، والمرجوا من الجميع اثراء الحلقات بالنقاش كما تفضل بعض الاخوة
أذكر منهم الكاتب والمؤرخ الارتري الاستاذ محمود ايلوس مشكوراً ، وأنا علي يقين سوف
يجد المقترح الترحيب من كل الزملاء الاساتذة ، وكذلك من جميع المهتمين بالبحث
والنشر في مجال الكتابة و الاعلام .
(2) في
الايام الاولي عند الالتحاق بالمعهد اصيب القادمين السواد الاعظم من خارج البلاد ببعض المصاعب
الصحية أغلبها حمي الملاريا وبعض التهابات
البرد وحساسية الجلد (الحك الحلو) ، فهي حالات معروفة تصيب كل جديد يتعافي منها
الشخص ويبدأ في مرحلة تعافي قل تعود اليه مرة اخري حتي لو سافر وعاد الي اسمرا بعد
أعوام ، وتلك الاصابات تركت في بعض الزملاء نفسية سيئة ، لم يتحملها البعض فعادوا
الي البلدان التي أتو منها فور الشفاء ، وهنا اقصد بالذات الذين قدموا من السودان
، ورغم انني مكثت فترة الايام الاولي للتحرير في ضاحية (عد قعداد ) التى تبعد 14
كيلومتر جنوب اسمرا ، وكذلك عدة أشهر في مدينة مندفرا حاضرة الاقليم الجنوبي ، الا ان تلك
الايام لم تغفر لي ، فكنت من ضمن قافلة المصابين بالملاريا اللعينة ، ولكن الشئ السعيد كانت اخر
اصابة في حياتي حتي لحظة كتابة هذه السطور (شيطان اِليسْمَعْ ) كما يقول مثل
بالتقري ، فقبل تلك الاصابة كنت ممن عانوا من مرارات ومعانات الملاريا علي مر سنين
لاحقتني في كل مرة بلهب حمياتها ولعيق مرارتها ، استسلمت من كثرتها الي قدر محتوم
لزائرة لاتفتر ولاتمل .
(3) فمن
ذكريات قصص وحكايات تلك الفترة ، اصابة احد الزملاء وهو الاخ عثمان الملقب
(عثمان تاجر) ، خلاف الامراض التي ذكرتها سلفاً ، وقد أصيب بنشرة في أصبع ابهام
يده اليمني ، وبدأ بالتشاور مع مقربيه واصدقائه بالبحث في علاج بلدي ، فاتذكر
البصلة التي كانت موضع اهتمام وتساؤلات كل من رآها وهي مغزوزة في الاصبع تبدو مثيرة
للشفقة ، كان عثمان شاب اجتماعي يلتف حوله
أغلب شباب بورتسودان ، من الجنسين ، ويتحلي بالفكاهة والمرح ، وحينما تعرض للاصابة
كان الجموع خلفه ترافقه في كل مكان في داخل المعهد وخارجه في سوق اسمرا ، في
زيارات الاهل والاصدقاء العاملين في مؤسسات الدولة ، كان كريماً لاتبارح البسمة شفاهه ، وله ضحكة مميزة ، ولذا
تشعر من اللحظة الاولي بلقائك به وكانك تعرفه منذ سنين .
(4) بعد التخلص من الصديد خمد الورم وتحول الي جرح مفتوح ومؤلم ، ولم يكن بد الا اللجوء الي
عيادة المعهد ، وقرر الطبيب فوراً بكتابة خطاب تحويل الي مستشفي دار الشفاء المسمي
محلياً (مكان هيوت) ،ورافقته مع المجموعة الي المستشفي المعنية ، وعند الوصول
أُدخلنا الي دكتور النبطشية في قسم الحوادث ، وامر الدكتور بحجز سرير انتظار
للاجراء عملية في الاصبع في اليوم الثاني ، ولكن عثمان رفض العملية جملة وتفصيلاً
، محتجاً ان الامر ليس خطيراً لدرجة المبيت في المستشفي ورفض من أساسه اجراء العملية ، وللاسف لم تشفع اعتراضات عثمان
، وبتصرف أشبه بالقرارات العسكرية أصدر الدكتور قراره النهائي بحجز عثمان عنوة في
العنبر ، وأمر السسترات بمراقبته ، وصاح عثمان في وجه الدكتور قائلا: " يا
اخي انا حر في جسدي وأنا المسئول عن نفسي وانا المعني بالشفاء .. ان شاء الله أموت ، انت
مالك ومالي ، انا في غني عن العلاج ، وفروا عملياتكم أنا ما محتاج ليها "
وغيرها من الصراخات ، ولان عامل اللغة كان مشكلة في تقارب وجهة الطرفين ، وكنت
الوحيد المترجم وكنت أخفي بعض التصريحات عما يقال حتي لاتشتعل الامور ، ولكن رغم
ذلك فشلت بالتوصل الي حل الازمة ، التي افضت الي طرد كل المجموعة بما فيهم أنا
خارج المستشفي ، ووضْعِ عثمان تحت الاقامة الجبرية مع تشديد المراقبة عليه حتي
صباح اليوم الثاني .
(5) لزم
عثمان السرير المخصص له بأمر مباشر من الدكتور ، مع اعطاء التعليمات للممرضين
الذين جلهم مقاتلين ، ورآي عثمان ان علاج الامور تحتاج الي تريث وحكمة وعمل علي تهدئة الامور و فعلاً اعتذر لهم عما
بدر منه وطيب خاطرهم بالابتسامات المصطنعة والربت علي اكتافهم ، مما قلل عليه
تشديد الحراسة ، وتمثل وكأنه في سبات نوم عميق ، وفي لحظة انشغال فريق التمريض
بالحالات الوافدة والتى لاتنقطع ، استغل وضع افراد النبطشية التي تقل أثناء ساعات الليل ، وتسلل من العنبر بحجة قضاء الحاجة ، وأطلق العنان
لقدميه ، وركب تاكسي أبعده من دائرة الشبهات و الخطر ، وحجز غرفة في احد الفنادق وقضي
فيه بقية الليل هادئاً هانئاً بعيداً عن زوبعة المستشفي .
(6) في
الصباح حضر الاقران تتقدمهم زميلة لنا ، ودخلوا عنبر المستشفي ، وسألوا عن عثمان ،
في البداية بلغوهم : في غرفة اجراء العمليات ، وطلبوا منهم الانتظار ، وفي الحقيقة
تدبير حتي مجئ موعد الدكتور المعني ، وبعد حضور الدكتور الزموهم بالتوقيع للاحضاره حتي لو غادر البلاد ، وحمدوا الله لان
أحداً لم يحتجز رهينة منهم مقابل عودة عثمان ، وخرجوا فرداً فرداً غير مباليين
بالتوقيع ، تقابلنا في الخارج عند بوابة المستشفي هم خارجين ونحن داخلين ،وبعد ها
رسمنا خطة البحث عن عثمان ، فقسمنا انفسنا الي مجموعتين اهمها مجموعة تذهب الي
المعهد للابلاغ بقية الزملاء ، ومجموعة تتجه الي السوق تبحث عن المختفي .
(7)
وُجِدَ عثمان في السوق يحتسي قهوة الصباح في احدي قهاوي المدينة مع زملاء خارج
دائرة المتدربين ، وأُبلغ بالاحداث الجديدة ، وبدون تأخير أو شورة لأحد قرر فوراً
مغادرة اسمرا ، وبالفعل حجز في بص كرن ، وتحرك برفقة الزميلة التي كانت تتقدم
مجموعة الموقعين علي محضر اعادته الي المستشفي ، وحتي اغراضه ولوازمه تركها في
المعهد ولا أعلم ان كانت قد ارسلت اليه أم بقيت حتي انتهاء فترة الدفعة ، ولم
يتجرأ احد من زملاء معارفه ، اخراجها أو ارسالها خوفاً ان لاتكون مرصودة من قبل
جهات خفية.
التحية للاخ عثمان تاجر اينما كان وحل ،، اذا كان هناك امكانية تواصل معه لكل الزملاء والاصدقاء ايجاد وسيلة تواصل معه ...مودتي .
ردحذف