السبت، 21 أبريل 2018

ذكريات معهد تدريب المعلمين (T.T.I) الحلقة الثالثة : #قصة_عثمان



(1)        وكما أسلفت الذكر في الحلقة الاولي ، هذه الحلقات هي نتف ماتبقي ما في الذاكرة  قابلة للاضافة والتعديل ، والمرجوا من الجميع اثراء الحلقات بالنقاش كما تفضل بعض الاخوة أذكر منهم الكاتب والمؤرخ الارتري الاستاذ محمود ايلوس مشكوراً ، وأنا علي يقين سوف يجد المقترح الترحيب من كل الزملاء الاساتذة ، وكذلك من جميع المهتمين بالبحث والنشر في مجال الكتابة و الاعلام .

(2) في الايام الاولي عند الالتحاق بالمعهد اصيب القادمين السواد الاعظم من خارج البلاد ببعض المصاعب الصحية  أغلبها حمي الملاريا وبعض التهابات البرد وحساسية الجلد (الحك الحلو) ، فهي حالات معروفة تصيب كل جديد يتعافي منها الشخص ويبدأ في مرحلة تعافي قل تعود اليه مرة اخري حتي لو سافر وعاد الي اسمرا بعد أعوام ، وتلك الاصابات تركت في بعض الزملاء نفسية سيئة ، لم يتحملها البعض فعادوا الي البلدان التي أتو منها فور الشفاء ، وهنا اقصد بالذات الذين قدموا من السودان ، ورغم انني مكثت فترة الايام الاولي للتحرير في ضاحية (عد قعداد ) التى تبعد 14 كيلومتر جنوب اسمرا ، وكذلك عدة أشهر في مدينة  مندفرا حاضرة الاقليم الجنوبي ، الا ان تلك الايام لم تغفر لي ، فكنت من ضمن قافلة المصابين  بالملاريا اللعينة ، ولكن الشئ السعيد كانت اخر اصابة في حياتي حتي لحظة كتابة هذه السطور (شيطان اِليسْمَعْ ) كما يقول مثل بالتقري ، فقبل تلك الاصابة كنت ممن عانوا من مرارات ومعانات الملاريا علي مر سنين لاحقتني في كل مرة بلهب حمياتها ولعيق مرارتها ، استسلمت من كثرتها الي قدر محتوم لزائرة لاتفتر ولاتمل .

(3) فمن ذكريات قصص وحكايات  تلك الفترة  ، اصابة احد الزملاء وهو الاخ عثمان الملقب (عثمان تاجر) ، خلاف الامراض التي ذكرتها سلفاً ، وقد أصيب بنشرة في أصبع ابهام يده اليمني ، وبدأ بالتشاور مع مقربيه واصدقائه بالبحث في علاج بلدي ، فاتذكر البصلة التي كانت موضع اهتمام وتساؤلات كل من رآها وهي مغزوزة في الاصبع تبدو مثيرة للشفقة  ، كان عثمان شاب اجتماعي يلتف حوله أغلب شباب بورتسودان ، من الجنسين ، ويتحلي بالفكاهة والمرح ، وحينما تعرض للاصابة كان الجموع خلفه ترافقه في كل مكان في داخل المعهد وخارجه في سوق اسمرا ، في زيارات الاهل والاصدقاء العاملين في مؤسسات الدولة ، كان كريماً  لاتبارح البسمة شفاهه ، وله ضحكة مميزة ، ولذا تشعر من اللحظة الاولي بلقائك به وكانك تعرفه منذ سنين . 

(4) بعد التخلص من الصديد خمد الورم وتحول الي جرح مفتوح ومؤلم ، ولم يكن بد الا اللجوء الي عيادة المعهد ، وقرر الطبيب فوراً بكتابة خطاب تحويل الي مستشفي دار الشفاء المسمي محلياً (مكان هيوت) ،ورافقته مع المجموعة الي المستشفي المعنية ، وعند الوصول أُدخلنا الي دكتور النبطشية في قسم الحوادث ، وامر الدكتور بحجز سرير انتظار للاجراء عملية في الاصبع في اليوم الثاني ، ولكن عثمان رفض العملية جملة وتفصيلاً ، محتجاً ان الامر ليس خطيراً لدرجة المبيت في المستشفي ورفض من أساسه  اجراء العملية ، وللاسف لم تشفع اعتراضات عثمان ، وبتصرف أشبه بالقرارات العسكرية أصدر الدكتور قراره النهائي بحجز عثمان عنوة في العنبر ، وأمر السسترات بمراقبته ، وصاح عثمان في وجه الدكتور قائلا: " يا اخي انا حر في جسدي وأنا المسئول عن نفسي  وانا المعني بالشفاء .. ان شاء الله أموت ، انت مالك ومالي ، انا في غني عن العلاج ، وفروا عملياتكم أنا ما محتاج ليها " وغيرها من الصراخات ، ولان عامل اللغة كان مشكلة في تقارب وجهة الطرفين ، وكنت الوحيد المترجم وكنت أخفي بعض التصريحات عما يقال حتي لاتشتعل الامور ، ولكن رغم ذلك فشلت بالتوصل الي حل الازمة ، التي افضت الي طرد كل المجموعة بما فيهم أنا خارج المستشفي ، ووضْعِ عثمان تحت الاقامة الجبرية مع تشديد المراقبة عليه حتي صباح اليوم الثاني .

(5) لزم عثمان السرير المخصص له بأمر مباشر من الدكتور ، مع اعطاء التعليمات للممرضين الذين جلهم مقاتلين ، ورآي عثمان ان علاج الامور تحتاج الي تريث وحكمة  وعمل علي تهدئة الامور و فعلاً اعتذر لهم عما بدر منه وطيب خاطرهم بالابتسامات المصطنعة والربت علي اكتافهم ، مما قلل عليه تشديد الحراسة ، وتمثل وكأنه في سبات نوم عميق ، وفي لحظة انشغال فريق التمريض بالحالات الوافدة والتى لاتنقطع ، استغل وضع  افراد النبطشية التي تقل أثناء ساعات الليل  ، وتسلل من العنبر بحجة قضاء الحاجة ، وأطلق العنان لقدميه ، وركب تاكسي أبعده من دائرة الشبهات و الخطر ، وحجز غرفة في احد الفنادق وقضي فيه بقية الليل هادئاً هانئاً بعيداً عن زوبعة المستشفي .

(6) في الصباح حضر الاقران تتقدمهم زميلة لنا ، ودخلوا عنبر المستشفي ، وسألوا عن عثمان ، في البداية بلغوهم : في غرفة اجراء العمليات ، وطلبوا منهم الانتظار ، وفي الحقيقة تدبير حتي مجئ موعد الدكتور المعني ، وبعد حضور الدكتور الزموهم بالتوقيع  للاحضاره حتي لو غادر البلاد ، وحمدوا الله لان أحداً لم يحتجز رهينة منهم مقابل عودة عثمان ، وخرجوا فرداً فرداً غير مباليين بالتوقيع ، تقابلنا في الخارج عند بوابة المستشفي هم خارجين ونحن داخلين ،وبعد ها رسمنا خطة البحث عن عثمان ، فقسمنا انفسنا الي مجموعتين اهمها مجموعة تذهب الي المعهد للابلاغ بقية الزملاء ، ومجموعة تتجه الي السوق تبحث عن المختفي .

(7) وُجِدَ عثمان في السوق يحتسي قهوة الصباح في احدي قهاوي المدينة مع زملاء خارج دائرة المتدربين ، وأُبلغ بالاحداث الجديدة ، وبدون تأخير أو شورة لأحد قرر فوراً مغادرة اسمرا ، وبالفعل حجز في بص كرن ، وتحرك برفقة الزميلة التي كانت تتقدم مجموعة الموقعين علي محضر اعادته الي المستشفي ، وحتي اغراضه ولوازمه تركها في المعهد ولا أعلم ان كانت قد ارسلت اليه أم بقيت حتي انتهاء فترة الدفعة ، ولم يتجرأ احد من زملاء معارفه ، اخراجها أو ارسالها خوفاً ان لاتكون مرصودة من قبل جهات خفية. 



هناك تعليق واحد:

  1. التحية للاخ عثمان تاجر اينما كان وحل ،، اذا كان هناك امكانية تواصل معه لكل الزملاء والاصدقاء ايجاد وسيلة تواصل معه ...مودتي .

    ردحذف