الاثنين، 16 أبريل 2018

قصّة "الفلاشا"... يهود صُدموا بأنّ الهيكل لم يعد موجوداً، وحوّلتهم إسرائيل من حال إلى حال


قصّة "الفلاشا"... يهود صُدموا بأنّ الهيكل لم يعد موجوداً، وحوّلتهم إسرائيل من حال إلى حال
حملوا ما تيّسر من متاع لتكرار حكاية قوم موسى. كان ذلك في بحر العام 1862. آلاف من الذين اصطبغوا بتسمية "التائهين" أو "البلا أرض"، أي "الفلاشا" باللغة الأمهريّة، لبوا دعوة راهب من بينهم، "آبا ماهاري"، إلى هجر الديار.
هم الذين يقيمون في قندر (غوندار)، شمال الهضبة الحبشية على علو 2100 متر، صعدوا إلى أرض العسل واللبن لملاقاة ظهور المسيح الموعود به في أسفار كتاب "أوريت" (العهد القديم) المكتوب باللغة الجعزية، لغة مملكة أكسوم القديمة، أمّ كل لغات الحبشة الحيّة، ولغة التلاوة والصلاة عند الفلاشا.
"الفلاشا" ليست تسمية ارتضاها القوم عن طيب خاطر (وهي لم تظهر قبل القرن السادس عشر). فهي تختزن حرمانهم من تملّك الأرض لفلاحتها، وحصر أعمالهم في حِرف يتعالى عليها نصارى الحبشة أو يتطيّرون من مزاولتها، مثل الحدادة وصناعة الفخار.
أما "بيتا إسرائيل"، فهي التسمية التي شاعت بينهم، توصيفاً لأصلهم وفصلهم، إنما من دون أي إدراك لـ"عالم يهودي" تشاركهم فيه طوائف وجماعات عديدة عبر العالم، ومن دون اللغة العبرية، ولا حتى التوراة باللغة العبرية، وحتماً لا "الميشنا" ولا "التلمود" ولا "الزوهار"، ومن دون "قرن الكبش" أو "الشوفار" للنفخ فيه صبيحة الأعياد.

سفر خروج العام 1862

كان الاعتقاد، إلى فترة خروج "آبا ماهاري" من قندر بحثاً عن أرض الميعاد، بأنّهم البقية الباقية من إسرائيل، لم يعد لها من فرع سواهم. فالجماعة القاطنة بين قندر وإقليم تيغراي منقطعة إلى أبعد حد عن يهود الهضبة اليمنية، على المقلب الآخر من البحر الأحمر، أو عن يهود وادي النيل، الذي ينبع فرعه الأزرق من بحيرة تانا (60 كلم جنوب مدينة قندر).
هذا في مقابل ارتباط كنيسة "التوحيد" الأرثوذكسية الأثيوبية الهيكليّ بالكنيسة القبطية في مصر (حتى العام 1959).
مع ذلك، أشار أكثر من حبر في مصر إلى وجود يهود "ضائعين" في بلاد السودان وكوش (الحبشة)، يتحدّرون من قبيلة "دان" التوراتية، بل أفتى الربي داود ابن زيمرا "رادباز" (المولود في الأندلس، و"الحاخام باشي" لمصر مع بداية الحكم العثماني لها) بيهودية حبشيين في القاهرة، امرأة و"عبد" معتق، باعتبارهما من نسل دان.
يوم أفتى رادباز بذلك كانت لا تزال لـ"بيتا إسرائيل" مملكة جبالية يحاربها أباطرة الأسرة السليمانية، وتشحذ فيها ذكرى المملكة نصف الأسطورية "يوديت" (10ق.م.) الهمم.
أما يوم عقد "آبا ماهاري" وأنصاره على الخروج من الحبشة، فكان "الاستقلال الملكي" أثراً بعد عين، نوستالجيا مسكوبة في المرويات الشعبية عن آخر "ملوكهم" المستقلين، جدعون.
ما ضاقت الجماعة ذرعاً به عام 1862، هو المحاولات الحثيثة المبذولة لتنصيرهم، ليس مباشرة من قبل الإمبراطور ثيودروس الثاني، بل من قبل بعثات تبشيرية بروتستانتية سمح لها ثيودروس بالعمل موقّتاً، شرط الالتزام بعمادة المهتدين في الكنيسة الأرثوذكسية.
نوع من "تلزيم" فريد من نوعه في تاريخ الأديان، انسجم مع قناعة لدى المستشرقين البروتستانت بأنّ الكنيسة الحبشية أقرب كنائس الشرق إليهم، نظراً لتقيّدها بالإطار التوراتيّ، وعزلتها النسبية (وقبلهم ببضعة قرون عوّل الرهبان اليسوعيّون، هم أيضاً، على كثلكتها).
اعتبر "الفلاشا" أن من يسقط منهم في أحابيل المبشّرين نجس ينبغي مقاطعته، ورفعوا العرائض للإمبراطور احتجاجاً، وسرت بينهم الشائعة بأنّ ثيودروس على وشك إرغامهم على العمادة الجماعية.
التقط "آبا ماهاري" اللحظة، واعتبرها علامة ظهور المخلّص.
وكما قوم موسى، تفشّت في قوم آبا ماهاري الأوبئة في المسير، واشتدّ عليهم الجوع والعطش وقطاع الطرق، وغرق قسم كبير منهم وهم يحاولون عبور نهر "تاكازي" (من ناحية السودان).
ومن جملة ما يروى أن آبا ماهاري حاول شق النهر بعصاه كما فعل موسى. قلّة تمكّنت من العودة إلى قندر، لكن بينهم من كرّر المحاولة "المسيحانية" في السنوات التالية.

"بيتا إسرائيل": جماعة أنتجها التاريخ الأثيوبي

يرجّح ستيفان كابلان في كتابه المرجعي عن تاريخ الفلاشا أن تكون الجماعة نتاج جملة من الأحداث التي شهدتها الهضبة الأثيوبية الشمالية بين القرنين 16 و17، أكثر منها نتيجة لهجرة يهودية قديمة، سواء كان مصدرها مصر أو اليمن.
وقد سبقه مكسيم رودنسون إلى تفسير شدّة تعلّق الثقافة الأثيوبية ككل، بأسفار العهد القديم من الكتاب المقدّس، على أنها نتيجة محاكاة نصيّة لهذه الأسفار، أكثر منها نتيجة لتأثيرات يهودية مباشرة وحيّة.
فالملحمة الأثيوبية "مجد النجاشية" (كبرا نغست) تنطلق من زواج الملك سليمان من ملكة سبأ (الحبشية هنا)، التي عادت من بيت المقدس بابن آخر في بطنها من سليمان، هو منليك الأوّل، وإلى منليك هذا أعادت الأسرة الإمبراطورية السليمانية أصلها، هي التي تنسّب إليها كل الأباطرة من القرن 13م حتى هيلاسيلاسي (وحتى الديكتاتور "الماركسي اللينيني" منغستو هايلي ميريام الذي تخلّص من هيلاسيلاسي خنقاً، فقد اختار الجلوس على الكرسي نفسه الذي كان للأخير، في حرص على أسطورة الاستمرارية السليمانية هذه، ولو في ثياب "المادية التاريخية").
يصعب بالنسبة إلى كابلان اختيار اسم محدّد لـ"الفلاشا". حين كان للجماعة مملكتها المحليّة الجبلية لم يكن هذا اسمها، وحين خسرت استقلالها راج الإسم التحقيريّ لها، بعد أن حرم أبناؤها الأرض والفلاحة.
ولئن كانت الحوليات الأثيوبية تعجّ بالأخبار عن جماعات توصف بـ"الأيهود"، فهذا اللفظ في أثيوبيا العصر الوسيط نادراً ما وجّه ليهود، بل لجماعات تعتبرها الكنيسة الرسمية هرطوقية، مع أنّها تؤمن بيسوع المسيح مع حرصها على حرمة "السبتين" (السبت والأحد) أو تعتبر أنه ولد إنساناً، ثم تألّه.
في المقابل، تنكر جماعة "بيتا إسرائيل" أن يسوع هو المسيح المنتظر، فالأخير لم يأت بعد، لكن تسميتها "بيتا إسرائيل" توقعنا أيضاً في الالتباس. ذلك أنه، في الحوليات الأثيوبية، كان أعضاء الأسرة السليمانية المسيحية الحاكمة هم الذين يوصفون قبل سواهم، بـ"الإسرائيليين"، ما داموا أحفاداً للملك الأورشليمي الحكيم سليمان ابن داود.
أقوال جاهزة
قصّة انتقال الفلاشا من أثيوبيا إلى إسرائيل... جماعة انقلبت من حال إلى حال في عقود
كانوا يعتقدون بأنهم البقية الباقية من إسرائيل، ولم يعد لها من فرع سواهم... قبل أن يخرجوا من ديارهم بحثاً عن أرض الميعاد ويصدمهم وجود جماعات يهودية غيرهم

ديانة قائمة بذاتها

أما مصطلح "اليهود" فلم يكن رائجاً بين "الفلاشا"، ولو أنّ الرحالة الإسكوتلندي جيمس بروس الذي "اكتشفهم" في القرن الثامن عشر، على هامش بحثه عن منابع النيل، صنّفهم كذلك، وأثار بذلك "غريزة" المبشّرين.
في كتابها الصادر لتوّه بالفرنسية عن دار البان ميشال، "يهود أثيوبيا. من قندر إلى أرض الميعاد"، تشدّد الباحثة الأنثروبولوجية ليزا انتيبي-يميني على دور المبشرين البروتسانت في جذب اهتمام يهود أوروبا بالفلاشا من ناحية، وجعل الفلاشا يشعرون بأنهم يهود من ناحية أخرى.
لا مكان للعبرية في ديانة الفلاشا. معظم الصلوات باللغة "الجعزية" القديمة، وأحياناً بلهجة "الأقوا". وكتاب "أوريت"، باللغة الجعزية، لا يأخذ شكل "اللفات" مثل "لفات أسفار التوراة" عند سائر الجماعات اليهودية.
لجماعة "بيتا إسرائيل" تراث أدبي مكتوب متعدّد، فيه كتب من أصول سريانية أو عربية، وكتب أكثر محلية، ومعظمها متأتٍ من المكتبة الكنسية المسيحية الأثيوبية نفسها، وليس هناك في كل هذا ما يشبه تراث الميشنا والتلمود في اليهودية الربّية.
في المقابل، التزامهم صارم بحرمة يوم السبت. تغرق قراهم بالعتمة منذ مساء الجمعة. لا يتناولون فيه غير الأطعمة الباردة، ويجهلون التراث التلمودي الذي يقتضي إشعال نار الشموع قبل الغروب، ووضع الأطباق على نار خافتة لبقائها فاترة. تحرّم ممارسة الجنس في السبوت عند الفلاشا، فيما هي مباحة، بل مستحبة، في التلمود.
وبشكل موازٍ تقريباً للسائد عند مسيحيي الحبشة، يكثر الفالاشا من أيام الصوم... كل اثنين وخميس، وكل أول وعاشر و12 و15 و29 من كل شهر، ويعيّدون عند مشاهدة كلّ قمر بدر.
أما رجال الدين في جماعة "بيتا إسرائيل" فهم أشبه بإكليروس الكنيسة الأثيوبية، يتزوجون ولا يطلقون، ومنهم الكهنة ومنهم الرهبان. ودور عبادتهم لا تسمّى "كنساً" بل مساجد، ومعظمها من طين وقش، تتم الصلاة فيها وقوفاً، ويستعان بآلات موسيقية مثل "المقوامية" والمزهر والطنبور.
ويقسّم المسجد الفلاشي بين فناء، ومصلى، و"قدس أقداس"، أي الحجرة التي لا يدخلها إلا الكهنة، وتوضع فيها الكتب ومسلتزمات الشعائر.
ولئن كان تصوّر نصّي عن هيكل سليمان قد اعتمد في عمارة الكنائس المسيحية في أثيوبيا، فإنّ ما تميّزت به الفلاشا، أو "بيتا إسرائيل"، أنّها الجماعة الوحيدة المدمجة في "العالم ​اليهودي"، التي ظلّت تقدّم الأضاحي الحيوانية قرب أماكن عبادتها، في حين اعتبرت اليهودية التاريخية، تلمودية كانت أو قرّائية، أنّ لا قرابين بعد ضياع الهيكل.
تحاكي العمارة المألوفة للكنائس في أثيوبيا نموذج هيكل سليمان. أما "بيتا إسرائيل" فكانت الجماعة الوحيدة في "العالم اليهودي" التي ظلّت تقدّم الأضاحي الحيوانية قرب مساجدها. الجماعات الأخرى حصرت ذلك بالهيكل، وانقطعت عن الأضاحي بعد ضياع الهيكل، في حين أن صدمة "فلاشا" كثر عندما نقلوا إلى إسرائيل في الثمانينيات من القرن الماضي، كانت حين علموا بدمار الهيكل.

أثر يعقوب فايتلوفيتش: تطبيق نظرية "القبيلة الضائعة"

لم ينظر الفلاشا إلى أنفسهم، على امتداد القرون، كقبيلة ضائعة من أسباط إسرائيل التوراتية، بل كإسرائيل الوحيدة المستمرّة. سيتبدّل الأمر مع الاتصال اليهودي الأوروبي الحديث بهم.
بعد سنوات قليلة على خروج آبا ماهاري وأنصاره، سيصل إلى مدينة قندر أستاذ اللغات الأثيوبية في باريس، جوزيف هاليفي، عام 1867. استعصى عليه أن يقنعهم بأنّه هو أيضاً من "الفلاشا". فلاشا وأبيض؟ استهجنوا وضحكوا. أما هو فلقى ضالته الرومانسية: بشر يشهدون على ما كانت عليه شريعة موسى في غابر الزمان.
وعدهم هاليفي بالمساعدة وشد الأزر من يهود أوروبا، ليقابل حين عودته إلى باريس باللامبالاة والتشكيك بروايته الغرائبية. هذا في وقت اشتد الخناق على الفلاشا، فنهاية القرن التاسع عشر كانت فترة "التنصير بالمجاعة"، وظهور طائفة كاملة من الفلاشا المرتدين، أو "الفلاشا مورا" من "عبّاد مريم"، وهؤلاء علقوا في منزلة بين اثنتين: رفض الأمهرا مخالطتهم، ونبذهم أهلهم.
يمرّ أربعون حولاً، ويأتي يعقوب فايتلوفيتش إلى قندر. اشكينازي بولندي من لودز، وتلميذ قديم لهاليفي. استطاع إقناع البارون دو روتشيلد بتمويل رحلته.
عندما قال لهم فايتلوفيتش إنه يهودي مثلهم، أجابوه بأنّها حجّة كل البيض الكذابين، يريدون الإيقاع بهم لنشر الإنجيل، ولم يعد من بني إسرائيل سوانا، وأنّ أبيض وعد الاهتمام بحالنا قبل أربعين عاماً ولم نره بعد ذلك، وأنّهم حاولوا إيجاد طريق القدس غير مرة، ويبدو أن مكانها احتجب في الغيب.
أعجب فايتلوفيتش بشعور الفلاشا بالاختلاف الشديد مع جوارهم، وغالى في تقدير الاختلاف الفيزيولوجي بينهم كساميين، وبين الآخرين. اعتبرهم من قبيلة "دان" الضائعة منذ آلاف السنين، وأنّ عليه "تصحيح" الانقطاع، وإعادة الوصل: تقريبهم قدر الإمكان من الجذر المشترك بين اليهود، وبالأخص نبذ الرهبنة، وايقاف القرابين الحيوانية، والتخفيف من قوانين الطهارة، وإدخال رموز يجهلها الفلاشا، كنجمة، داود وإضاءة الشموع عشية السبت والقلنسوة.
شكّكت "الآليانس"، أو "الاتحاد الإسرائيلي العالمي"، المتحمسة للنموذج الجمهوريّ الفرنسيّ، والمنهمكة بـ"تحضير وتنوير" يهود الشرق، بما أخبر به فايتلوفيتش، وأرسلت حاييم نعوم، حاخام الأستانة (والحاخام الأكبر للدولة العثمانية لاحقاً)، إلى قندر.
عاد نعوم برأي مخالف: ليسوا يهوداً، وينبغي عدم التلاعب بعقولهم، وذهنيتهم بدائية لا تسمح بتطبيق مناهج "الآليانس" عليهم، على غرار يهود سوريا أو المغرب، ولا بأس من تشجيعهم على الهجرة من القرى إلى المدن الكبرى، فالاحتكاك بالأوروبيين قد يرفع من شأنهم يوماً، ثم نرى.

صدمة "فلاشا" كثر عندما نقلوا إلى إسرائيل في الثمانينيات من القرن الماضي، كانت حين علموا بدمار الهيكل... عن يهود إثيوبيا وكيف اكتشفتهم إسرائيل وضمتهم إليها

بعكس "الآليانس"، كان فايتلوفيتش متديناً وصهيونياً في آن واحد. لم يخفِ حماسته لحمل الفلاشا على الهجرة إلى فلسطين. لم يجد الأذن الصاغية في "الوكالة اليهودية". أقام مجموعة من المدارس في إريتريا وأثيوبيا، وكلّف تامرات ايمانويل، الذي أرسله لتلقي العلم في أوروبا، بإدارتها.
لم يتحمّس ايمانويل لدفع الفلاشا إلى الهجرة من الحبشة، مع أنّه سيختار شخصياً، بعد أن فقد حظوته كأحد مستشاري الإمبراطور هيلاسيلاسي، أن يمضي بقية حياته في إسرائيل.
بالتزامن، وجدت نزعة لدى الفرقة التي ظهرت بين الأفرو-أميركيين في القرن التاسع عشر، وعرفت بـ"العبرانيين السود"، إلى الهجرة إلى أثيوبيا، وحاول رهط منهم إقامة مستوطنة فيها بالقرب من قرى الفلاشا.

قانون العودة... وقانون التوبة

التبس موقف الدولة العبرية من الفلاشا لعقود. شجعت برنامجاً تعليمياً لهم في أثيوبيا ثم تراجعت عنه. حدثت الانعطافة في السبعينيات، بتحريك من الجمعيات اليهودية الأميركية، في الفترة نفسها التي اعتبرت فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.
وجدت هذه الجمعيات أنّه من المناسب درء تهمة كهذه، بإعادة اكتشاف يهود سود البشرة، وتجديد حركة الهجرة إلى الدولة الصهيونية، بهم.
من جانبها، اعتبرت الحاخامية الكبرى في القدس بأنّ "بيتا إسرائيل" جماعة يهودية، معتمدة في ذلك على فتاوى رادباز المصري، فصار بإمكانهم الانتفاع من "قانون العودة".
أما أثيوبيا التي قطعت علاقتها مع إسرائيل بعد حرب 73، فقد أطيح فيها بالإمبراطور هيلاسيلاسي في أيلول 1974، وسيطرت عليها زمرة "الديرغ" (الحكومة العسكرية المؤقتة لأثيوبيا الاشتراكية)، ومعها مجموعة من الحروب الأهلية، فكان هذا هو سياق موجات نقل الفلاشا إلى إسرائيل.
من بضع مئات في السبعينيات، بات عددهم فيها 125 ألفاً اليوم، وصار لهم نواب في الكنيست منذ 1996.
بعد مجاعة 1984 ونزوح مئات آلاف الأثيوبيين نحو السودان، بمن فيهم الفلاشا، قام الموساد الإسرائيلي بالتنسيق مع حكم النميري في السودان، بنقل الآلاف عبر شركة طيران بلجيكية. عرفت هذه بـ"عملية موسى".
في مناقضة للسردية الملحمية الرسمية حول هذه العملية، تكثر الشهادات عمّا تعرّض له الفلاشا أثناءها في الطريق إلى مخيمات النزوح وضمنها، وطول الانتظار لأشهر وسنوات، للتثبت من عدم تسرّب أسماء غير مدرجة على القوائم، والابتزاز الجنسي للنسوة منهم من عملاء "الموساد" لوضعهم على رأس القوائم.
وبما أنّ الفلاشا لم يقعوا ضحايا لـ"الهولوكوست النازي"، ولم يتعرضوا لتنكيل خاص بهم في فترة الغزو الإيطالي أيّام موسوليني، فإنّ عذابات "السفر إلى السودان" هي التي تحوّلت بالنسبة إلى الطائفة المعاد تشكيلها في إسرائيل، إلى سردية "ذاكرة الآلام" الخاصة بهم.
خلال ذكرى المهاجرين الأثيوبيين الذين قضوا على الطريق إلى إسرائيل
أما عملية "سليمان" في أيار 1991، فنُظّمت في وقت حوصرت أديس أبابا بالمتمردين المتأهبين للإطاحة بمانغستو، وسُيّر فيها جسر جوي إلى مطار اللد، لنقل 15 ألفاً من الفلاشا في يومين، وهنا بدأت مشكلة جديدة: الأسماء غير المدرجة في القوائم، وخصوصاً مشكلة "الفلاشا مورا"، الذين تنصّروا في العقود الماضية ويريدون الهجرة إلى إسرائيل.
الفلاشا مورا
ظهر عندها التناقض بين قانون العودة "المدني" وبين الشريعة اليهودية (الهالاخاه). لا يلحظ القانون حق انتفاع المرتدين عن اليهودية وأبنائهم منه، في حين تلحظ الشريعة باباً لـ"التوبة" عبر طقوس معينة، أي أنه بإمكان "الفلاشا مورا"، الهجرة إلى إسرائيل، بشرط "التوبة" والعودة إلى اليهودية، مع أنّ قسماً كبيراً عاد ونشط في كنائس إنجيلية حالما حصل على الجنسية.

إعادة ختان المختونين

وفقاً لليزا انتيبي يميني، فإن الفلاشا أكثر المعترضين على السماح لـ"الفلاشا مورا" الذين اعتنقوا المسيحية، بالهجرة. ليس فقط لأنهم خانوا الجماعة، بل لأن المعادلات المعمول بها في إسرائيل يمكن أن تنقلب لمصلحة هؤلاء المرتدين السابقين.
فـ"بيتا إسرائيل" رفضت من الأساس أن تعامل كجماعة منحرفة يُراد استتابتها، هي التي كانت قبل ذلك تصنف نفسها على أنّها الشعب المختار الوحيد. والحاخامية الكبرى في إسرائيل اعترفت بيهودية "بيتا إسرائيل" دون أن تطلب منهم التوبة، لكنها في المقابل لم تعترف برجال دينهم، "القزوتش" من ذوي العمامات البيضاء، بل ارتأت الحاخامية منتصف الثمانينيات أنّه يلزم اجراء شعيرة شديدة الفظاظة للفلاشا، إعادة ختان المختون، "هاتافات دم بريت"، فكانت عاصفة احتجاج، وجرى التراجع عن شريعة كهذه، انما بقيت مسائل الزواج والطلاق والدفن في عهدة الحاخامية الكبرى، وليس "القزوتش".
صدم الفلاشا بأشياء كثيرة حالما وجدوا أنفسهم في دولة إسرائيل.
بعضهم أصابته النوبة لأنّ المشروبات الغازية، بما تحويه من خميرة، مسموح بها في دولة اليهود، وبعضهم لأنه خبأ رماد البقرة الحمراء عند صعوده الطائرة لتقديمه إلى هيكل لم يعد موجوداً. كثير منهم رفض الطب الحديث، وقسم منهم استطاع الترويج للطب الروحاني الحبشي بين الإسرائيليين البيض أنفسهم.
لم يسمح لهم بمسلخ خاص، مع أنّهم لا يأكلون ما لا يرونه يذبح أمامهم، ويمزجون اللحم بالجبنة بلا وجل، بخلاف التشديد اليهودي الصارم على تطبيق الأمر الإلهي بعدم طبخ الجدي بلبن أمه.

الذين "تشتمّ منهم رائحة الماء"

ومن المسائل المستفزة، أن الحاخامية الكبرى تحذّر اليوم "الفلاشا مورا" من أن يأكلوا من عند الفلاشا "بيتا إسرائيل"، تحت طائلة سحب الاعتراف بيهوديتهم. فالفلاشا بيتا لا يزيلون الدم تماماً عن اللحم كما تقتضي شريعة الهالاخاه، بل يغسلون اللحم بالماء عوض سحب كل الدم منه بالتمليح... ولطالما هزأ المسيحيون بهم في الماضي من كونهم يهرعون إلى جدول ماء للتطهّر من النجاسات ليل نهار، فوصفوهم بأنّ "رائحتهم ماء".

بعد سنوات قليلة على خروج آبا ماهاري وأنصاره، سيصل إلى مدينة قندر أستاذ اللغات الأثيوبية في باريس، جوزيف هاليفي، عام 1867. استعصى عليه أن يقنعهم بأنّه هو أيضاً من "الفلاشا". فلاشا وأبيض؟ استهجنوا وضحكوا. أما هو فلقى ضالته الرومانسية: بشر يشهدون على ما كانت عليه شريعة موسى في غابر الزمان

في الأساس، حاولت إدارة الهجرة تفادي تكرار نموذج توطين اليهود الشرقيين المزراحيم فيها، في تجمعات سكنية على حدة، عرفت بـ"مدن التطوير" في الخمسينيات، فكانت النتيجة تشتيت اليهود الأثيوبيين في كل المدن، وبقائهم معزولين مع ذلك في الحي الأفقر، ونفور قسم كبير من "البيض" من مخالطتهم، بدءاً من حضانات الأطفال.
ومع الهجرة السرية للعمالة الأريترية والأثيوبية والسودانية إلى إسرائيل، زاد ما يتعرض له الفلاشا من "عنصرية بيضاء"، مثلما زاد رفضهم هم، لدخول إخوة لهم في الجلدة، إلى إسرائيل، مع أنّه تكثر بينهم موضة "السفرات التراثية"، والعلاجية-السحرية، إلى أديس أبابا وقندار.
ولعلّ أكثر ما أساء إلى الفلاشا في إسرائيل، "قضية الدم" عام 1996، عندما كشفت الصحافة أنّ جميع ما تبرعوا به من دم إلى المستشفيات منذ وصولهم كان يجري التخلص منه، بسبب ارتفاع نسب الهيباتيت بي والأيدز والمالاريا، وكتم الأمر لعدم خدش مشاعرهم.
وهذا من جملة ما دفع قسماً كبيراً من الشبان الأثيوبيين الإسرائيليين إلى بلورة "ثقافة احتجاجية" متأثرة برموز النضال الأسود في أميركا الشمالية، بل أنّ ليزا انتييبي - يميني تشدّد على أنّ الانتماء إلى مشترك "الثقافة السوداء الكوكبية" والتماهي تحديداً مع الموسيقى الأفرو-أميركية والجامايكية، باتا سمة أساسية للاجتماع الأثيوبي في إسرائيل.
خلال مظاهرة ضد العنصرية في إسرائيل 2012
نقلت إسرائيل "الفلاشا" من حال إلى حال. ثلثهم ولد فيها اليوم، والتطوّع بالجندية نسبته الأعلى عندهم، وأكثر أصواتهم لليكود. يتداخل ذلك مع معاناتهم العنصرية بأشكال مختلفة، ما أدى لحركة احتجاج واسعة عام 2015 بعد انتشار فيديو لجندي منهم يتعرّض للضرب على يد شرطيين.
في المقابل، وعلى غرار ظاهرة المطربة اليمنية الراحلة عوفرا هازا، يجري التركيز في إسرائيل على نموذج المغنية والممثلة استير رادا، للتدليل على تجربة "اندماج" ناجحة و"اكزوتيكية".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق