(1)
الفصل C11 لنا فيها ذكريات رائعة فقد قضينا فيه اوقات جميلة ، فليس هو فصل
دراسي علي قطعة جغرافية وكفي ،، بقدر ما هو مساحة وجدانية للتآخي والمحبة ، تعلمنا
فيه كل فنون الحياة ونهلنا من ينابيع المعرفة في شتي المجالات ، فقد كنا طلاب ولكن
معلمينا ومدرسينا لم يكونوا مدرسين تقليديين تقتصر علومهم في المنهج المحدد في كتب
المقرر ، فهم علماء ورسل يحملون تنوع ثقافي من العلوم الانسانية التي تشكل متعة
للعقل وراحة للقلوب .
(2)كنا
فيه مايربوا الاربعين دارساً ، والمقررات الدراسية هي مادة اللغة العربية طاهر ومن
بعده بخيت ، والانجليزية كاثرين ، والجغرافيا شابيلاي، والتاريخ اسماعيل ، والمنطق
الرياضي احمد ، الادارة عبدالله ، وعلم النفس ادريس (الاجتماعي ، الاكلنيكي ،
والشخصية...التربوي الخ ) ، ومادة اصول التدريس محمود ، حسب التخصص الاكاديمي ،
لان هناك اقسام لمعلمي الرياضة ، الفنون والموسيقي ، والمجال الزراعي ،وغيرها .
(3) في
هذا الفصل شهدنا اكبر المعارك التنافسية ، والنقاشات الجادة ، كانت فترة الحصة تستغرق
الساعة أو الساعة والنصف في حالة التطبيق ، أكثر المعلمين اسهابا في ادق تفاصيل
المادة هو الاستاذ الراحل المقيم محمود محمد خير ، فهو خبير تربوي بمعني الكلمة ،
سريع السرد وواضح الشرح ، لايكلف نفسه عناء اختيار الكلمات والمعاني يخيل اليك انه
حافظ المقرر ، لم يدخل قط الفصل حاملا كتاب المقرر ، اللهم احيانا يدخل حاملاً بعض
الوسائل التعليمية ، طريقة سرده بسيطة ، ويكتب خلاصة المعلومة في السبورة ، له في
مهنية الالقاء براعة فائقة .
(4)
المواقف التي لاتنسي ، في هذا الفصل ونحن في بداية الايام الاولي قرينتي في درج
الدراسة الزميلة خديجة ، ونحن في عمق الحصة ، فجئة احسست ان شيئاً يسحبها من تحت
الدرج ، ولم افطن لحالها الا بعد سقوطها كعجينة ملفوفة بقماش حريري ، وقفز الفصل
كله ، والزميلات يصرخن ويبكين باصوات عالية ، واغلب الزملاء دخلوا في ذهول تام ،
وقد حملناها بايدينا وهي فاقدة الوعي تماما الي عيادة المعهد ، وكل الفصل وقف امام
العيادة ، كانها تظاهرة مما لفت الادارة ، انهت التجمع بسرعة وامرتني بالدخول
للفصل ،وثم صدر تنبيهات عاجلة القاها علينا مدير المعهد (مبرهتو) في الفصل حظرنا
من تتكرر مثل هذه الظواهر ، وقلل من شأن الحالة مستدلا بتجارب النضال الارتري الذي
ضاق فيه الشعب الارتري مصاعب جم ، كانت الزميلة خديجة تعاني من نوبات قلبية في
فترات متفاوتة ، وكنا دائما نراقب حالها وهاجس المرض لم يبارحنا طول الفترة
الدراسية .
(5) ومن
المواقف المحزنة ، لا انسي حكاية مادة اللغة العربية ، في اختيار الامثلة التي
تناسب بيئة التلميذ ، وحكي لنا استاذ المادة أن احد المدرسين عين حديثاً ، وصادف
مكان عمله في احدي ارياف جنوب السودان ، وكتب لهم مثال علي النحو التالي : ( لمس
الولد الاسد ) وقام احد التلاميذ وقال للاستاذ : والله كذاب ..! وساله الاستاذ :
من الكذاب؟ ورد التلميذ : الولد مايقدر يلمس الاسد ، وفهم المعلم الخطأ وغير
المثال مع تقبل وجهة نظر التلميذ ، وكان مثالا رائعاً ،أدخل في نفوسنا شيئا من
المتعة ، وكذلك ترك فينا استدراك وجداني لاينسي ، وذلك الاستاذ القدير هو الطاهر
فك الله أسره ، الذي لم يعد بعدها الي رواق الفصل ، بسبب الاعتقال الذي طاله ،
وطال معه مجموعة كبيرة من معلمي المعاهد الدينية ، والمدارس العربية ، فكانت صدمة
للجميع .. يتبع >>> الحلقة القادمة .
اثيوبيا الدولة التي يتغني بها حكامها اليوم ليست هي الا كُتل جغرافية تكونت عبر السيف كحال دولة آل سعود في الجزيرة العربية ، وان لم تسمي الدولة باسم عائلة الا ان السيطرة علي الحكم ظل في اطار عائلي لاتختلف كثيراً عن السعودية .
كانت منطقة هرر التى تقع جنوب شرق اثيوبيا امارة مستقلة حتي انهاء حكمها في 26يناير 1887م ، من قبل اباطرة الامحرا الاقطاعيين ، عاشت ردحا من الزمن في سلام ووئام ولم تكن عليها وصية من اي دولة حتي في عهد الاتراك ، ودول الطراز الاسلامي .
ويذكر ان الامير عبدالله الثاني بن علي بن عبدالشكور اخر امراء هرر رفض طلب منليك مرور الاسلحة والذخائر عبر اراضيه من ميناء جيبوتي الي ( شوا ) ، مما راود الامبراطور منليك فرصة الانقضاض عليها وضمها بالقوة الي بلاده وبدأ يتوعد ويدق طبول الحرب ، ولكن عدل منليك عن الفكرة لتجنب الحرب ، للاسباب عدة منها سيطرة ايطاليا علي ارتريا التي كانت تخطط في احتلال منطقة القرن الافريقي باكمله ، ونشاط ثورات داخلية في لاقاليم المجاورة كان لايطمئن الاحوال ، تلك الفترة كانت مفتوحة ، فكل قائد منطقة كان يري نفسه ملكاً ، ولذا فيما بعد جاء لقب (ملك الملوك) ليضم كل الممالك والملوك تحت مسمي ملك الملوك .
وهنا اخذت الامير عبدالله الثاني العزة عندما تاخر منليك من غزو بلاده ، وبادر هو في غزو شوا للتخلص من خصمه منليك ، ( يتغذي به قبل ان يتعشي به ) كمايقول المثل ، وفي معركة مباغتة هجم علي شوا مستغلا توقيت ايام عيد الميلاد المجيد ظناً كثرة شرب الكحول فيها ، وقبل ان يصل الي العاصمة التقي الجيشان في منطقة (تشلينكو) في يوم 9يناير 1887 ، التي انتصر فيها منليك بجدارة ، لان قواته كانت علي هبة الاستعداد للاسباب التي ذكرناها سلفاً . .. وبذلك طويت صفحة امارة ظلت مستقلة علي مر عهود مضت . عاش الامير عبدالله الثاني فترة حياته متخفيا بثوب شيخ صوفي حتي تاريخ وفاته في هرر 1930م .
اليوم كنت اتصفح حسابى فى تويتر واتابع تدوينات المغردين ، وجدت الكاتبة الكبيرة ستيلا قد أنشأت حسابا فى تويتر ، ويبدو جديدا تماما فقد انشاته قبل يومين ، وكنت جهدت طويلا بالبحث عن حسابها فى تويتر طيلة السنتين المنصرمتين بدون جدوى.
خطوتها جاءت متأخرة بعض الشىء ، لكن لا بأس بالإمكان حاليا متابعتها ، خاصة هى قاصة وروائية ، تكتب بعمق عن الواقع الاجتماعى والسياسى لأهلنا الجنوبيين فى الشمال والجنوب على السواء .. وتجيد الكتابة بالعربية كانها بنت ( سبويه )
أتركها لكم هنا ، كما هى قدمت نفسها فى أحد احتفالات جائزة الطيب صالح العالمية بالخرطوم.
نص كلمة استيلا قايتانو أمام احتفال جائزة الطيب صالح: شهادة للتاريخ وأقوال شاهد اثبات على محنة الوطن الجريح في الشمال والجنوب .
استيلا قايتانو
استيلا قايتانو سلام بقدر ما في هذه البلاد من جمال، ورحمة بقدر ما في هذه البلاد من تعب، وبركات بقدر ما في نفوس الناس من طيبة وسماحة.
اسمي استيلا قايتانو جنيشس.. اسمى يعني نجمة الصباح قال ابي عندما ولدت في فجر أحد الايام كانت هناك كوكبة تلمع في السماء حينها قال هذه استيلا وهو اسم ايطالي. اما هو ابي قايتانو اعتذر له لان الكثيرين ينطقون اسمه خطأ او حتى يكتب خطأ ولم يسلم حتى كتابي الاول من ذاك الخطأ.. ساعات اتحمس لتصحيحه وساعات اتركه..
على اية حال هو ليس اسمي. اما اسم جدي فهو الخطأ عينه وهو اكبر دليل على ان السودانيين لا يجيدون نطق اسمائهم ولا كتابتها، فجنيشس هذا هو في الاصل جيمس ولان الكتبة الذين يجلسون في بوابات مكاتب الجوازات والهجرة في ذاك الوقت لم يركزوا مع ابي وكتبوا اسمه دون ان يسمعوه جيدا وتحول جيمس الى جنيشس ودمغ هذا الاسم في شهادات ميلادنا وشهاداتنا السودانية والجامعية ليصبح خطأ متعمداً نرتكبه بدقة شديدة لان اي تغيير يعني التشكيك في كل اوراقنا الثبوتية.. حتى عندما عدنا للجنوب حملنا هذا الخطأ معنا كتذكار عصي على المحو من دولة السودان الام.
الميلاد والنشأة : ولدت ونشأت في الخرطوم بحري المزاد، نشأت وترعرعت في الحاج يوسف بالتحديد الوحدة سوق 6، عوالم الهامش، والحاج يوسف يشبه الكثير من البيئات التي تطوق العاصمة القومية، احياء احتضنت النازحين بسبب الحروب او المتساقطين من ركب المدينة الصاروخي، او لجاذبية المدن وتوفر الخدمات فيها.
جامعة الخرطوم : اشكر الصدفة التي ساقتني الى هذه الجامعة، هناك درست الصيدلة وقابلت اعز الاصدقاء، اصدقاء كالارض لا يخزلونك ابداً، وتعثرت بالكتاب والشعراء والنقاد والسياسيين والذين لهم الفضل في ميلاد استيلا فشكراً جميلاً لهم.
الحالة الاجتماعية : متزوجة وام لطفلين وكتاب ومقالات ممتلئة بهذيانات مذبوحة.
الامنية : كنت اتمنى ان اصبح فتاة طويلة.. ولكن كانت صديقتي خنساء الطيب تقول لي دائما: “يعني هسي انتي مقصرة حكمتو بالغة”.
.. اظننا نحن السودانيين نحب ان نعرف من اين ذاك الشخص بالضبط بحسن نية او سوئها، لذا رغم توهان البعض في انتمائي وصعوبة تحديد مسقط رأسي بسبب قصر القامة وتوهان الملامح وفصاحة القلم واللسان لذا كان يتم تقديمي بالكاتبة الجنوبية التي تكتب بالعربية، كنت اغتاظ جدا ولكني وجدت بان هناك الكثير من المبدعين يتعاملون مع هذه الانتماءات البسيطة بغرض التعريف ليس الا لذا تصالحت مع الامر كما تصالح مبدعونا الذين ذكرتهم سابقاً، تضيق انتماءاتهم في حين انهم يتمددون بطول قامتهم على ارض المليون ميل ومحنة، يدخلون البيوتات الحزينة بدون استئذان ويحطمون السياجات ويملأون الساحات بالجمال، يشتلون السماحة والفكرة والمحبة لخلق وجدان سليم.. لا بامر السلطات ولكن باملاء من انسانيتهم المتجاوزة للانتماءات الضيقة، بما انه كان يتم تقديمي بـ ( الكاتبة الجنوبية التي تكتب بالعربية) ولقد اصبح هذا واقعاً الان وحقيقة لا يمكن التحايل عليه كما السابق، فالكتابة باللغة العربية قد ميزتني لان في تلك الفترة لم يكن من المألوف ان يكتب كاتب ينتمي الى جنوب السودان باللغة العربية، اغلبهم يكتبون باللغة الانجليزية وفي غياب شبه تام للترجمة لم تنتشر اعمالهم في الجزء الشمالي من البلاد، لذا حاولت ان اكتب باللغة التي تجيدها الاغلبية، حتى يسهل التواصل بيني والاخرين، صفة الكتابة بالعربية كما ادهش بعض الكتاب والنقاد هنا قد استفزت احد كتاب الانجليزية في الجنوب، وذلك عندما زارنا وفد من جامعة ايوا الامريكية في جوبا وهم اساتذة يهتمون بالكتابة الابداعية لدرجة دراستها في الجامعات بعد ان عرفت نفسي اضفت باني اكتب بالعربية فقال لي احد كتاب الانجليزية الذي استفزه الامر وشعر باني مستلبة نحو العروبة: ماذا تريدين من هذه اللغة فهي ليست لغتك لتكتبي بها !؟ فقلت له اريد الشئ نفسه التي تنشده انت فانت تكتب بالانجليزية وهي ايضاً ليست لغتك؟ اعتقد باننا الكتاب يجب الا نفكر بهذه الطريقة ولكن يبدو ان السياسة نفثت سمومها على الجميع لدرجة تورط بعض المثقفين لخدمة تلك لاجندة ، ولكن اثناء العشاء اقترب مني الروائي والشاعر البروفسيور تعبان لولينق ورمى هذه الكلمات في اذني : كوني كذلك الكاتبة الجنوبية الوحيدة التي تكتب بالعربية.. هذه ميزة ولا تتخلي عنها ابدا.
اللغة عندي هي روح النص واللغة هي التي تضيف الحياة الى نصوصنا واللغة هي التي تميز وتشخص ابداعنا وحتى تعطى انطباعها الاول، كما الانسان بالضبط، كما ان هناك اناساً تحبهم من اول وهلة او العكس، او هناك من تفرح به او يبهرك او يجبرك الى احترامه او حتى يصادقك تتساكش معه، هذه ما نصوصنا من خلال الروح اللغة التي نكتب بها، احب اللغة العربية واعشق الكتابة بها واللغة العربية هي ماعوني اللغوي الذي اريد ان اعبئ فيه قصصاً تخصني وثقافة تخصني بعيدة كل البعد عن العرب والعروبة، وكنت اعتقد باني لن استطيع التعبير بلغة اخرى غير العربية، ولكن بعد ان استقل الجنوب واصبحت الانجليزية هي اللغة الرسمية، لا ادري ماهي موجة فرض اللغات الرسمية، واجد انها كلها لا تعبر عن هويتي ولكني متصالحة معها واحب التعامل بها واتخذها اداة للتواصل والابداع وقارب اعبئ فيه ذاتي لتبحر لعوالم اخرى وشعوب اخرى تحتفي بالجمال والتنوع وتقديراً اننا اخوة في الانسانية من حقهم ان تصل لهم النصوص باللغة التي يعرفونها، ساكون سعيدة طبعاً اذا كان هناك الف روح لـ ( بحيرة بحجم ثمرة الباباي).
بعد العودة للجنوب انقلبت الموازين لدي واصبح هناك تحدٍ بان كيف اصل الجميع حتى قراء الانجليزية، والان اعمل على محاولة تطوير نفسي لاكتب باللغتين او ترجمة اعمالي الى اللغة الانجليزية .
كتبت عن الحرب والنزوح وثقت للفقر والعوز والخمور البلدية والسجون.. في قصة ( كل شئ هنا يغلي) بجزءيها نحت نحو الموت والسجون – ونحو الجنون، كنت قريبة جدا من اجواء هذه القصص هذا اذا لم اعترف صراحة باني كنت جزءاً منها واشارك في بعض تفاصيلها..اعرف الكشة وقسوة رجال الشرطة، اعلم الابتزاز وطلب الرشاوي من الامهات اللائي يفضلن وضع عصارة جهدهن وقوت اولادهن ورسوم مدارسهم في ايد الجنود بدل ان تؤخذ الى السجن وهذا كان صداما اجتماعياً وثقافياً بين الدولة المعروفة دستورياً بالعربية الاسلامية ومجموعة من مواطنيها الذين ليس لهم علاقة بالتوجهات الايدولوجية للدولة لذا كانت صناعة الخمور بالنسبة لهن هى مصدر رزق تسد الرمق وتوفر كسوة وتدخل عدداً لا بأس من الاطفال المدارس على سوئها ولكنها ترضي الامهات، اما نظرة الدولة فلم يكن هؤلاء المواطنون الا مجموعة من المنتهكين للحرمات الدينية لدين ليس لهم به اي التزام روحي ولا يعرفون حتى شعائره، لذا حاربت الدولة تلك الصناعة بكل ما اوتيت من قوة وللاسف من غير تقديم بدائل محسوسة لكسب العيش الكريم و.. الحلال طبعا، عندما كانت تأتي الكشات وتسكب المرائس البيضاء على الارض وتقود الامهات نحو السجون كان ضمير السلطات يرتاح لانها نهت عن المنكر بينما كان رأي سكان تلك المناطق انها اهدار لنعمة كان يمكن ان يتغذى بها الكبار والصغار وتشعرهم بالامتلاء والنشوة ليوم كامل وحبست المعيل الوحيد للاسرة، بذا ازدادت الفاقة والعجز وتراكم الغبن الاجتماعي لتصبح تلك البيئات المفرخ الاساسي للمشردين والحانقين والغاضين والمجانين الذين يبحثون عن بصيص امل للهروب..
تلك الاختلافات في القيم على بساطة تفاصيلها عبأت الناس تجاه الرحيل في اقرب فرصة وقد فعلوها ومازلنا نجتر مراراتها حتى الان ، تعايشنا مع اباء غير مسؤولين و اقصاهم المجتمع بالعطالة او التعطيل ليدخلوا في دائرة غير منتهية من السكر والعربدة والعنف الموجه الى النساء والابناء وانفسهم، دخلت امهاتنا السجون عشرات المرات من اجل اطعامنا وجبة واحدة في اليوم ومن اجل ان نشترى كراسة وقلم وكل امنياتهن الا تحبل بناتهن في سنين المراهقة الاولى والا يعاقر ابناؤهن الخمور وفي اغلب الاحيان يحدث كلاهما كنتيجة طبيعية لتلك البيئة، بيئة النزوح والعنف والانحطاط الذي هو ابن شرعي للحرب واعتبر نفسي محظوظة او باكثر امتنان ناجية عندما تفتح وعيي مبكرا واتخذت من القلم والحرف ازميلي لاحفر عميقاً لانحت ذاك الالم غير المحدود في ذاكرة كانت بعيدة ولا تنظر لتلك البيئة الا بنظرة الاتهام والخوف والازدراء والاحساس البارد بان هؤلاء ليسوا جزءاً من هنا ولابد ان يأتي يوم ويذهبوا وقد فعلوا، وكان ذهابا صادما ومؤلما فلم يستطع من اختاروا الجنوب وطنا الشفاء منه ولا بقية السودانيين الذين بقوا في الوطن الام الشفاء منه، تحدثت عن ذاك الرجل الواعي والعاجز في آن وحولته الى عين ترصد كل شئ ولكن دون ان يكون في استطاعته التغيير، كم هو مؤلم اقتران الوعي بالعجز ليصيبا البطل بذاك الالم الرهيب لدرجة الانسحاب من الحياة شيئا فشيئا..
اكتشفت متعة التحدث عن الخاص والمحلي جدا ليصبح دهشة للآخرين لذا تعلمت ان اكتب عن نفسي ان اكتب عن امي ان اكتب عن اهلي وارضي التي كنت بعيدة عنها لان من حق الاخرين اكتشاف حيوات اخرى لا يمكن تخيلها.. فكتبت ( وليمة ما قبل المطر) وتبدأ باولير وهو بطل القصة والذي اسمه يعني العراء.. هذا الاسم هو اسم اصيل في القبيلة التي انتمي اليها قبيلة اللاتوكا من كبريات القبائل التي تسكن شرق الاستوائية من القبائل التي تعبر عن حزنها بالبكاء والرقص في آن، بكاء الجسد والروح فلم يدهشني زوربا عندما كان يرقص الما برجل واحدة في رائعة ماركيز ولكني اكتشفت بان هذه التفاصيل تكتب، برفقة الدموع والاغنيات.
. عن الاسماء نقول باننا نمجد اسم القبيلة ويعتبره الاجداد والجدات بانه الاصل وما عداها هى وجهات ليس لها اي داعي.. فاي منا يحمل اكثر من اسم وقد يكون لكل جدة او جد او خال او عم اسم عزيز عليه يطلقه عليك ويجب عليك ان تفرح به وتعتز، واطلاق الاسم ليس لها علاقة بلحظة الميلاد او ما نسميه (السماية) قد تتلقى اسماء جديدة خلال عمرك وتفاعلك مع المجتمع او اكتساب صفات جسدية كالطول او القصر او سواد البشرة او القوة او حتى عاهة، كل هذه محفزات اساسية لتظفر بعدد من الاسماء واذا كانت امك من قبيلة ووالدك من اخرى فسوف تحمل ما قدر الله لك من اسماء حتى تئن ، فاسمي المعروف هو استيلا ولكن في القبيلة اسمي هو( اغاري) اي المرفوضة واحمد الله بان امي وابي من نفس القبيلة وقد سميت كذلك تيمنا باحدى الجدات.. واسم امي لوشيا ولكن اسمها (اكولنق ) اي المولودة بسرة كبيرة.
ابي قايتانو وهو (اوكود اراغي) اي الطائر المقوس الجناح المستعد للطيران او الانقضاض وقد سمى نفسه اثناء فترة الشباب، اختي نجوى تدعي (ادوا ) ويعني الحصاد واخي موريس (اغالا) ويعني المولود باسنانه.. خالتي (ايميجوك) اي ذات الاذنين الصغيرة وولدي عمر اسمه ( اوقيدي) اي المولود في موسم الامطار و(اتاري) المولود ليلاً او( ايقو دو) العمياء او العمشاء و(اميدو) الفطساء الانف..
وهكذا نسمي لنوثق للحدث ولنحتفي بالجمال او للتصالح مع عاهاتنا دون اي انتهاك لحقوق الانسان. فاولير يعني الطفل المولود في العراء واوفيري الطفل المولود اثناء الحرب وايموارا الطفلة المولودة اثناء التصالح والسلام.. فقصة اولير كتبتها من الخيال البحت.. استحضرت ذاكرتي السماعية لتكثيف الصورة تحدثت عن انهار وبروق، استعنت بالتعاويز والكجوروالخرافة كمعتقدات افريقية مازالت تمارس حتى الان بايمان وخشوع تام، زينتها بالغابات والبافرا واوراق الموز، ثم عطرتها بروائح الجدات الائي يسرح القمل في تنانيرهن.. اللائي بمجرد امنية منهن قد تصيب الابناء و الاحفاد اللعنات التي لا يمكن التحرر منها بسبب الخوف او الغضب..
فخوف الجدة على حفيدها في هذه القصة حتى لا تصيبه الصاعقة كما اصابت اصدقائه الذين كانوا يلعبون تحت شجرة العرديب الضخمة لانه كان نائما، جعلتها تلعن حفيدها كي ينام كلما امطرت السماء.. لذا كان اولير ينام مع كل زخة للامطار اثناء ذلك تعود به الذاكرة الى عمر السادسة الى يوم الحادث بالتحديد اثناء سباحته في نهر هائج وانهمار الامطار وهو رجل بالغ ولكنه يتحول في احضان الطبيعة الى طفل نائم في عمر السادسة.. فيرى احتراق الشجر بالصواعق..
يسمع عويل الامهات ودوي الطبول يحس بلعاب جدته الملعون على فروة رأسه ينتحب وهو يرى قملة كبيرة تنزوي في ثنايا تنورتها، ما اريد قوله من هذه القصة هو ان الاعتقاد شئ يصعب التحرر منه وذاك ينطبق على كل الاديان السماوية والارضية وبسببه قد يحيا الفرد ويعيش على امل او يموت ملعونا وطريدا من رحمة الاله.
بحيرة بحجم ثمرة الباباوي.. احب هذا النص كما يحبه العديد منكم ولها مكانة خاصة عندي لانها القصة التي عبرت بها من مرحلة الكتابة العادية التي تشبه كتابة الكثيرين الى مرحلة كتابة الانا الخاص والغريب عن الآخر، كتبتها في نصف ساعة، لم اراجعها ولم اغير فيها شئ، نزلت عليَ كوحي او كالهام، كتبتها وانا ارتجف من الخوف والانفعال وكانت دواخلي تصرخ او تحتفل كلحظات الميلاد، كنت خائفة من هذا النص لانه لم يكن لدي توقعات عن قبوله بكل تلك الجراءة والغرائبية التي فيها، نص به امرأة لا تشبه النساء، بها خليط من الامومة الابدية والقسوة المتجذرة لاسباب تعرفها نساء الريف والبيئات المفتوحة على المفاجآت السارة او القاتلة، اناس يجدون قراءة الطالع ويفهمون همس الشجر والحيوان والالوان والتخاطب مع البيئة ويعرفون دلالتها، هي هكذا ديانات وخرافات واسطورة هي عمود فقري للثقافات الافريقية، كيف استطيع قول هذا في زمن سيطرت الحقيقة الواحدة على كل الحقائق الاخرى وربما ساتعرض للسخرية ! هذا كان مصدر خوفي ، كتبتها بشغف وعندما انتهيت القيتها في حقيبتي الوحيدة كأني اخفي جرما.
قبل ان اكتبها كنت اراقب جدتي الحقيقية وليس لها علاقة بجدتي التي في القصة.. حيث ان جدتي الحقيقية قصيرة القامة وصغيرة الجسم مثلي وجبانة نوعا ما مثلي ايضاً.. تخاف المرض والحرب والموت وعدم الانجاب وقلة ادب الابناء والحنين.. وهي التي كانت تقول عندما تضرب امي لتأدبها حين تُأنبها الجارات على ذلك قائلات : لماذا تضربينها وهي ابنتك الوحيدة ؟ كانت ترد عليهم : واذا لم اضربها هل ستنفلق الى عشر بنات ؟ تلك هي جدتي الحقيقية والتي ابتلاها الله بموت المواليد فلم تبقَ غير امي واخوها..
لذا انجبت امي 9 اطفال بدون توقف عاش منهم 7 وكلنا اناث وولد واحد فكانت تقول لنا : لقد انجبت اخوتي بنفسي وهو الشئ الذي اريد ان اعوض به امي عن موت اطفالها ! لذا تفرح جدتي بالاحفاد حد الاحتفاء، موقعي وسط بين اخواتي لذا لم يكن والداي يركزان معي كثيراً حتى تفاجأوا ذات يوم بصوري في الصحف وعلى شاشات التلفاز. كنت اراقب جدتي الصغيرة وهي تحطم بعض كتل طين جدارنا الذي تداعى اثناء خريف ما ارضا، لتحولها الى تراب نعيد بها بناء ذاك الجدار.. كانت تجلس على مقعد قصير وتغني اغنية اطلقتها لتمجيد مآثر جدي وهي اغنية لنفسها وتنجز للاسرة، نهضت وتحركت في الفناء وفعلا رايت الافق عبر ثقب اذنها..
والتمعت الفكرة في رأسي وذهبت ودونتها في نصف ساعة، استحضرت جدة اخرى رأيتها من قبل وابهرتني بطولها وقبحها ورائحتها النفاذة وغير مكترثة بمقاييس الجمال التي تهم الاخرين ويعرفها الناس فتقول عن فطاسة انفها يكفي انها تتنفس به هكذا في فلسلفة تقدير الوظائف والمهمات واداء الواجبات اكثر من الوجاهة والمظاهر.. فالانف الطويل والكبير والافطس كلها تؤدي مهمة التنفس من ما يعني الحياة فلما يركز الناس على الجمال بشكله السطحي ؟ لهذا قد نهيم بشخص دميم من الخارج ونحلق حوله عندما يكون بيننا ونفتقده عندما يغيب لان دواخله منابع تتفجر جمالاًغير محدود وايضا قد يضايقنا طلة شخص فاتن وساحر ولان دواخله مزبلة للقبح، لذا اقول رغم قبح جدتي لم اكن اتقزز منها فاني احبها.. ولذا ايضا نحب كمال وداعة وامل دنقل. اول من قرأ هذا النص هو الاستاذ الشاعر عاطف خيري في ذاك الوقت كنت طالبة ثانوي لم ادخل الجامعة بعد، كنت حينها اعمل في مركز لتصوير المستندات في جامعة الخرطوم، بعد ان اتم قراءتها القى الي بالوريقات وهرول خارجا، خفت، بعد حين عاد وقال : هذه القصة سوف تصبح عدوتك يوما ما، مالم تكتبي بهذا القدر من الجمال باستمرار، وبذلك تولدت داخلي رهبة الجمهور الذي لا يرحم ويريد المزيد وبنفس المستوى. #منقول من صفحة الاستاذ / احمد عبده بالفيس بوك
مقدمة : ــ طلب مني اخ وزميل عزيز توثيق الفترة الدراسية التى قضيناها في معهد تدريب المعلمين باسمرا الذي يعرف اختصاراً ... استمرت عاماً دراسياً كاملاً وذلك في عام 94/1995م ، ويسعدني وبكل سرور كتابة احداث تلك الايام الرائعة ، لانها مرحلة مهمة في حياتي جمعتني باخوة كرام ، واحباب عزاز ، ورسل علم همام ، وسوف اعمل بجهد كبير ما استطعت في تذكر بعض الاحداث باذن الله .. وهي عبارة عن ذكريات وليست دراسة ، وأطلب من كل الاخوة والاخوات المعلمين ان يساعدوني بالتعليقات والمداخلات باضافة وتعديل المعلومة والاهم التصحيح اذا بدر خطأ .
(1) بعد اعلان استقلال ارتريا في مايو 1993م عن اثيوبيا عبر الاستفتاء تحت رعاية الامم المتحدة ومراقبة المجتمع الدولي ، بدات الدولة الوليدة في عملية #البناء و #التعمير ، فسرحت المقاتلين بالذات الشباب حتي يتثني لهم حرية اختيار مايناسب ميولهم ويتوافق مع متطلباتهم ، وقدمت التساهيل لدفع الشباب بالالتحاق الطوعي والوظيفي بمؤسسات الدولة ، فانكب الشباب في مكاتب القنصليات بالخارج بكميات كبيرة ، فكانت مرحلة جميلة شبيه بفترة الستينات عندما انطلق الكفاح المسلح التي تدفق الشباب من الداخل والخارج تاركين مراكزهم في الدول المجاورة علي سبيل المثال مجندي الجيش السوداني .
(2) فقد خصصت الدولة ميزانية تفوق ميزانية الدفاع ، للتعليم للاهميته القصوي في التنمية البشرية ، فعملت في بناء مؤسسات التعليم وخاصة في الريف ، ووفرت الكادر الصحي ومصادر المياه ووسائل المواصلات لجعل الريف جاذباً ، فضلاً ان نسبة البدلات والعلاوات كانت الاعلي في الريف والمناطق الطرفية ، واصبح معهد تدريب المعلمين في اسمرا اكاديمية (للتعبئة الوطنية .. والتدريب العملي ) يفعل المنهج الوطني ، فقد كان دور كبير للمعلمين الافاضل خريجي الشام وخاصة سوريا ، في تاسيس نظام تعليمي وتاهيل كادر تربوي تعليمي ارتري مؤهل يقود المرحلة بتفان واخلاص .
(3) وأذكر في القسم العربي / الاساتذة صلاح عبي ، ويس ، وادريس محمد نور، ومحمود محمد خير ، وعبدالرحمن شابيلاي ، وعبدالله محمد عثمان ، واسماعيل محمد علي ، ومحمد طاهر ، وبخيت ، محمد علي ، كاثرين .. كانوا شموساً متقدة ساهمت في سد النقص الحاد في المعلمين في وقت وجيز ، الذي فرضته المرحلة بعد مغادرة الاثيوبيين الذين كانوا يشغلون وظائف الخدمة المدنية .
(3) في اول يوم دخلت فيه مباني المعهد كان في استقبالنا الزميلة صفية عبدالرحمن حامد ، ولم يكن لي سابق معرفة بها ، ولكن مع جلسة التعارف في كافتيريا المعهد ، اتضح لكلينا اننا من عشيرة واحدة ، وطلب منا الاستاذ محمد علي مرافقته ، لمعرفة الغرف المخصصة لنا وتسع كل غرفة اربعة أسرة ، ودولاب مشترك ، معدة بشكل ارستقراطي ، وجميع مباني المعهد خاصة السكن والفصول الواجهة كاملة من الزجاج المتحرك أفقياً ، وبعد وضع أمتعتنا في مواقعنا ، ذهبنا سوياً الي فندق يبعد عن المعهد نصف كيلومتر تقريبا ، يقع علي الطريق الرئيسي الذي يربط اسمراىـ كرن ، وجلسنا في مجموعتين لعدم وجود مساحة متقاربة ، فكنت أعاني من سوء هضم ، فطلبت مياه معدنية يطلق عليها محليا (ماي غاز ) ، ولان الاغلبية حديثي المعرفة عن بلد ابائهم و اجدادهم كان هاجس الخوف يدور في خيال كل فرد فيهم خاصة الاناث منا ، وكانت الدهشة باينة في وجهن حينما دخلنا الفندق فالعرض كان يتصدر زجاجات المشروبات الروحية ، وطلب الجميع كل حسب رغبته ، واخيراً طلبت لنفسي قارورة مياه غازية ، أزعجت الاخوات غادرن علي وجه الفور ساحة الفندق ، وتبعهن احد الزملاء لمعرفة الحاصل الا انهن لم يردن علي تساؤلاته وعاد بخفي حنين ، مما أفسد علينا الجلوس والبقاء في الفندق بعدهن .
(4) خرجن مسرعات من الفندق ، ولحقنا بهن قبل الدخول الي المعهد ، وكان أول مواجهتهن :" ماعندكم شوية دم ...!! عشان تحترموا مشاعرنا ..!! ، من اول يوم كدا وربنا يستر علي بقية الايام ؟؟" ، والدموع تجري علي خدودهن تاسفاً علي الخذلان الذي وقعوا فيه ، وحينها عرفت ان زجاجة المياه الغازية هي سبب الازمة ، وتقدمت خطوتين لتوضيح الحاصل ولكن رفضت احداهن وخاطبتني غاضبة بكلمات حادة .. ، وواصلت بطرح قصة وردت في بالي سمعتها من والدي اطال الله في عمره ، بعد تلطيف الجو بكلمات خففت من حدة الانفعال .. والقصة "انه عندما دخل والدي للاول مرة سوق كرن أعطته خالته خديجة ادريس مجذوب قرشين له ولشقيقه صالح ، فرأوا الناس تدخل مكانا فقصدوه ، وطلبوا ما يطلبه الداخلون فيه ، فشربوا ودفعوا الحساب ، فكان في بالهم المشروب المسكر ، فبدأو يتمايلون يمنا ويسراً ، ويقولون لللاقرانهم واصحابهم انهم تناولوا مشروباً افرنجياً في حين انهم في الحقيقة تناولوا ( الشاي ) ، فلم تفلح محاولة الاقناع الا بعد دخول الحلقة الاستاذ محمد علي الذي خرج بالصدفة من المعهد ، فحلت المشكلة ودفنت خارج اسوار المعهد ، وحكاية نرددها ونستهل بها لقاءاتنا ، ومن ذلك الموقف اصبحت الدليل الذي يعتمد عليه بحكم اجادة اللغتين ، واخترت ممثل القسم العربي في لجنة المعهد لاحقاً ....يتبع >>>
(1) أروع المشاهد لزائر المعهد المناظر الخلابة التى تسر العين وتأسر النفس ، يقع في أرض فيها كل تفاصيل الطبيعة من علو ومنحدرات وسهول ومرتفعات خضراء ، وينابيع طبيعية ، وأشجار باسقة من الالبان (القلاميطوس) والفلفل البري(فَــرْفَــرْ) ، وانواع اخري من الاشجار ، وحول المباني السكنية والادارية ، حدائق رائعة مصممة من قبل مبدعي البستنة ، وتنوع مدهش من الازهار والورود تشكل لوحة كل فصل من فصول السنة الاربعة علي حدا ، كل الامكنة ملهمة تعطيك الاحساس بالهدوء والراحة ومتعة القراءة و الاطلاع ، وممارسة الهوايات المختلفة من رسم وعزف وغناء ، فلكل صاحب موهبة مطلق الحرية في اختيار المكان المناسب في الوقت المناسب ما بين الحقول والاشجار ، والتي تعتبر مصدر التعلم من الطبيعة ، والتطبيق العملي للاستراتيجيات التعلم الحديث . (2) في المعهد مكتبة فخمة مليئة بكتب علمية قيمة ، وتشمل أفضل المراجع باللغتين الانجليزية والعربية ، وهناك قاعة تعلم اللغات باسلوب حديث وفي تلك الفترة تعد قفزة حقيقية في مجال التعليم عبر الحاسوب ، بالاضافة الي صالات عرض الاعمال الفنية السمعية والبصرية وعرض بقية الفنون الجميلة والتطبيقية ، ويتضمن ميادين مختلفة لممارسة الرياضة بأنواعها ، وفصول مصممة لمجال الحياكة ومختلف الاعمال النسوية ، وفي المعهد قاعة واسعة تسع كل افراد المعهد وضعفهم من الخارج ، يمكن عرض كل الاعمال الفنية من مسرح وغناء وسينما ، وتوجد عيادة للتطبيب والاسعافات الاولية ،والمعهد يعتبر صرح اكاديمي للتعليم والتعلم ، ومؤسسة متكاملة لكل انواع التدريب والتاهيل المستمر لبناء قدرات الشخصية وتطوير الكادر التعليمي الذي ينجز برامج المرحلة ، ويعجل من سرعتها ، وكفاءة نجاحها .
(3) الدراسة في المعهد مختلطة حسب الاختصاص ، أما السكن فلا يفصل بين سكن الاناث عن الذكور سياج حديدي او بناء حجري او سلك شائك وانما حدائق الورد والزهور ، الوقت في المعهد يمر سريعا ، فالكل مشغول من كثرة المواد والتدريبات والواجبات اليومية ، حتي زمن تناول وجبات الغذاء محدد ، فلا مجاملة فيه ، العطلة الاسبوعية الرسمية يومي الاحد والجمعة ، يمنع الخروج في بقية ايام الاسبوع الا للضرورة ، مابين الساعة الثامنة صباحا حتي السادسة مساء ، بعض متدربي المعهد يأتون من منازلهم صباحا ويغادرون بعد الدوام ، يمكن استقبال الضيوف في ايام الدراسة مابين الدوامين في كافتيريا المعهد ، أما دخول المساكن لايجوز البتة ولاتنعدم التصرفات الغير قانونية ، هيكل ادارة المعهد تتكون من ادارة تعليمية و فنية و امنية وكلها تحت اشراف مدير المعهد .
(4) الحركة في داخل المعهد عادية في كل ساعات الليل للقاطنين فيه ، ويحق للمتدرب ان يذاكر في الفصول الدراسية ، بشرط ان يحافظ علي الهدوء والسكينة ، وللمعهد محكمة تتكون من مناديب الادارة والمعلمين والمتدربين تختار بطريقة الانتخاب الحر من كل الاطراف ، وهي الجهة المخولة في اصدار القرارت الحاسمة من (انذارـ وفصل) ، ولاتوجد فوارق الخصوصية بين الجنسين الاناث والذكور في المعاملة ، والحقوق والواجبات ، وللامانة المعهد كان في قمة الرقي الانساني والاكاديمي ، وكل من درس فيه يعتبر عالما ومعلما وقائداً .
(5) تختلف اعداد الطعام من بلد الي بلد اخر ، ومن شعب الي شعب اخر ، فأغلب منتسبي قسم اللغة العربية هم من القادمين من السودان ، وكانت حكاية الاسباقتي وهي وجبة ايطالية أصبحت من الاكلات الرئيسية المحببة لسكان المدن الارترية وخاصة العاصمة أسمرا ،وهي من الموروثات الشعبية مثل رياضة الدراجات التى تعتبر في ارتريا الاولي شعبية ، وتتكون من الشعيرية ، التي تخلط في صحن التحضير بملاح خاص يُعد من الطماطم والبصل ولحم البقر وقليل من البهارات والشطة ، مؤخرة صف الطعام احياناً يقابلك من شدة الازدحام عند بوابة القاعة ، ولا تعرف نوعية الطعام الا بعد الوصل لمنصة استلام الوجبة .
(6) ففي الايام الاولي في المعهد ،أضيفت الينا مجموعة جديدة من المتدربين ووقفت في الصف وعند وصولها منصة الاستلام لم تجد الا صحن الاسباقتي فاعتقدوا ان الغداء قد انتهي ورفضوا استلام الوجبة ، بحجة انه لايمكن قد انتهت الوجبة الرئيسية وتبقت التحلية ، وخرجت المجموعة غاضبة من القاعة ، وسط ذهول تام من الجميع ، وواصلوا السير الي البوابة الرئيسية لتناول الغداء علي حسابهم الخاص خارج المعهد ، فرفضت ادارة الأمن طلب الخروج ، حسب قوانين ولوائح المعهد المُنظِمة للزيارات والعطلات ، فتجمهروا واصوات احتجاجاتهم تعلوا و ترتفع ، فقبل أن يتشعب الامر وتتدخل ادارة الامن لتفريقهم ، حصل تفاهم وحل الموضوع بين المتدربين ، وربنا لطف قبل أن يتشابك الموضوع ويفتح له محضر مخافر الشرطة ، وعادت الجموع الي القاعة وحينها انتبهوا ان جميع الصحون التى امام الآكلين لاتحتوي الا نوع واحد من الطعام هو الاسباقتي << يُتبع الحلقة القادمة ...
(1)وكما أسلفت الذكر في الحلقة الاولي ، هذه
الحلقات هي نتف ماتبقي ما في الذاكرة قابلة
للاضافة والتعديل ، والمرجوا من الجميع اثراء الحلقات بالنقاش كما تفضل بعض الاخوة
أذكر منهم الكاتب والمؤرخ الارتري الاستاذ محمود ايلوس مشكوراً ، وأنا علي يقين سوف
يجد المقترح الترحيب من كل الزملاء الاساتذة ، وكذلك من جميع المهتمين بالبحث
والنشر في مجال الكتابة و الاعلام .
(2) في
الايام الاولي عند الالتحاق بالمعهد اصيب القادمين السواد الاعظم من خارج البلاد ببعض المصاعب
الصحية أغلبها حمي الملاريا وبعض التهابات
البرد وحساسية الجلد (الحك الحلو) ، فهي حالات معروفة تصيب كل جديد يتعافي منها
الشخص ويبدأ في مرحلة تعافي قل تعود اليه مرة اخري حتي لو سافر وعاد الي اسمرا بعد
أعوام ، وتلك الاصابات تركت في بعض الزملاء نفسية سيئة ، لم يتحملها البعض فعادوا
الي البلدان التي أتو منها فور الشفاء ، وهنا اقصد بالذات الذين قدموا من السودان
، ورغم انني مكثت فترة الايام الاولي للتحرير في ضاحية (عد قعداد ) التى تبعد 14
كيلومتر جنوب اسمرا ، وكذلك عدة أشهر في مدينة مندفرا حاضرة الاقليم الجنوبي ، الا ان تلك
الايام لم تغفر لي ، فكنت من ضمن قافلة المصابين بالملاريا اللعينة ، ولكن الشئ السعيد كانت اخر
اصابة في حياتي حتي لحظة كتابة هذه السطور (شيطان اِليسْمَعْ ) كما يقول مثل
بالتقري ، فقبل تلك الاصابة كنت ممن عانوا من مرارات ومعانات الملاريا علي مر سنين
لاحقتني في كل مرة بلهب حمياتها ولعيق مرارتها ، استسلمت من كثرتها الي قدر محتوم
لزائرة لاتفتر ولاتمل .
(3) فمن
ذكريات قصص وحكايات تلك الفترة ، اصابة احد الزملاء وهو الاخ عثمان الملقب
(عثمان تاجر) ، خلاف الامراض التي ذكرتها سلفاً ، وقد أصيب بنشرة في أصبع ابهام
يده اليمني ، وبدأ بالتشاور مع مقربيه واصدقائه بالبحث في علاج بلدي ، فاتذكر
البصلة التي كانت موضع اهتمام وتساؤلات كل من رآها وهي مغزوزة في الاصبع تبدو مثيرة
للشفقة ، كان عثمان شاب اجتماعي يلتف حوله
أغلب شباب بورتسودان ، من الجنسين ، ويتحلي بالفكاهة والمرح ، وحينما تعرض للاصابة
كان الجموع خلفه ترافقه في كل مكان في داخل المعهد وخارجه في سوق اسمرا ، في
زيارات الاهل والاصدقاء العاملين في مؤسسات الدولة ، كان كريماً لاتبارح البسمة شفاهه ، وله ضحكة مميزة ، ولذا
تشعر من اللحظة الاولي بلقائك به وكانك تعرفه منذ سنين .
(4) بعد التخلص من الصديد خمد الورم وتحول الي جرح مفتوح ومؤلم ، ولم يكن بد الا اللجوء الي
عيادة المعهد ، وقرر الطبيب فوراً بكتابة خطاب تحويل الي مستشفي دار الشفاء المسمي
محلياً (مكان هيوت) ،ورافقته مع المجموعة الي المستشفي المعنية ، وعند الوصول
أُدخلنا الي دكتور النبطشية في قسم الحوادث ، وامر الدكتور بحجز سرير انتظار
للاجراء عملية في الاصبع في اليوم الثاني ، ولكن عثمان رفض العملية جملة وتفصيلاً
، محتجاً ان الامر ليس خطيراً لدرجة المبيت في المستشفي ورفض من أساسه اجراء العملية ، وللاسف لم تشفع اعتراضات عثمان
، وبتصرف أشبه بالقرارات العسكرية أصدر الدكتور قراره النهائي بحجز عثمان عنوة في
العنبر ، وأمر السسترات بمراقبته ، وصاح عثمان في وجه الدكتور قائلا: " يا
اخي انا حر في جسدي وأنا المسئول عن نفسي وانا المعني بالشفاء .. ان شاء الله أموت ، انت
مالك ومالي ، انا في غني عن العلاج ، وفروا عملياتكم أنا ما محتاج ليها "
وغيرها من الصراخات ، ولان عامل اللغة كان مشكلة في تقارب وجهة الطرفين ، وكنت
الوحيد المترجم وكنت أخفي بعض التصريحات عما يقال حتي لاتشتعل الامور ، ولكن رغم
ذلك فشلت بالتوصل الي حل الازمة ، التي افضت الي طرد كل المجموعة بما فيهم أنا
خارج المستشفي ، ووضْعِ عثمان تحت الاقامة الجبرية مع تشديد المراقبة عليه حتي
صباح اليوم الثاني .
(5) لزم
عثمان السرير المخصص له بأمر مباشر من الدكتور ، مع اعطاء التعليمات للممرضين
الذين جلهم مقاتلين ، ورآي عثمان ان علاج الامور تحتاج الي تريث وحكمة وعمل علي تهدئة الامور و فعلاً اعتذر لهم عما
بدر منه وطيب خاطرهم بالابتسامات المصطنعة والربت علي اكتافهم ، مما قلل عليه
تشديد الحراسة ، وتمثل وكأنه في سبات نوم عميق ، وفي لحظة انشغال فريق التمريض
بالحالات الوافدة والتى لاتنقطع ، استغل وضع افراد النبطشية التي تقل أثناء ساعات الليل ، وتسلل من العنبر بحجة قضاء الحاجة ، وأطلق العنان
لقدميه ، وركب تاكسي أبعده من دائرة الشبهات و الخطر ، وحجز غرفة في احد الفنادق وقضي
فيه بقية الليل هادئاً هانئاً بعيداً عن زوبعة المستشفي .
(6) في
الصباح حضر الاقران تتقدمهم زميلة لنا ، ودخلوا عنبر المستشفي ، وسألوا عن عثمان ،
في البداية بلغوهم : في غرفة اجراء العمليات ، وطلبوا منهم الانتظار ، وفي الحقيقة
تدبير حتي مجئ موعد الدكتور المعني ، وبعد حضور الدكتور الزموهم بالتوقيع للاحضاره حتي لو غادر البلاد ، وحمدوا الله لان
أحداً لم يحتجز رهينة منهم مقابل عودة عثمان ، وخرجوا فرداً فرداً غير مباليين
بالتوقيع ، تقابلنا في الخارج عند بوابة المستشفي هم خارجين ونحن داخلين ،وبعد ها
رسمنا خطة البحث عن عثمان ، فقسمنا انفسنا الي مجموعتين اهمها مجموعة تذهب الي
المعهد للابلاغ بقية الزملاء ، ومجموعة تتجه الي السوق تبحث عن المختفي .
(7)
وُجِدَ عثمان في السوق يحتسي قهوة الصباح في احدي قهاوي المدينة مع زملاء خارج
دائرة المتدربين ، وأُبلغ بالاحداث الجديدة ، وبدون تأخير أو شورة لأحد قرر فوراً
مغادرة اسمرا ، وبالفعل حجز في بص كرن ، وتحرك برفقة الزميلة التي كانت تتقدم
مجموعة الموقعين علي محضر اعادته الي المستشفي ، وحتي اغراضه ولوازمه تركها في
المعهد ولا أعلم ان كانت قد ارسلت اليه أم بقيت حتي انتهاء فترة الدفعة ، ولم
يتجرأ احد من زملاء معارفه ، اخراجها أو ارسالها خوفاً ان لاتكون مرصودة من قبل
جهات خفية.
حملوا ما تيّسر من متاع لتكرار حكاية قوم موسى. كان ذلك في بحر العام 1862. آلاف من الذين اصطبغوا بتسمية "التائهين" أو "البلا أرض"، أي "الفلاشا" باللغة الأمهريّة، لبوا دعوة راهب من بينهم، "آبا ماهاري"، إلى هجر الديار.
هم الذين يقيمون في قندر (غوندار)، شمال الهضبة الحبشية على علو 2100 متر، صعدوا إلى أرض العسل واللبن لملاقاة ظهور المسيح الموعود به في أسفار كتاب "أوريت" (العهد القديم) المكتوب باللغة الجعزية، لغة مملكة أكسوم القديمة، أمّ كل لغات الحبشة الحيّة، ولغة التلاوة والصلاة عند الفلاشا.
"الفلاشا" ليست تسمية ارتضاها القوم عن طيب خاطر (وهي لم تظهر قبل القرن السادس عشر). فهي تختزن حرمانهم من تملّك الأرض لفلاحتها، وحصر أعمالهم في حِرف يتعالى عليها نصارى الحبشة أو يتطيّرون من مزاولتها، مثل الحدادة وصناعة الفخار.
أما "بيتا إسرائيل"، فهي التسمية التي شاعت بينهم، توصيفاً لأصلهم وفصلهم، إنما من دون أي إدراك لـ"عالم يهودي" تشاركهم فيه طوائف وجماعات عديدة عبر العالم، ومن دون اللغة العبرية، ولا حتى التوراة باللغة العبرية، وحتماً لا "الميشنا" ولا "التلمود" ولا "الزوهار"، ومن دون "قرن الكبش" أو "الشوفار" للنفخ فيه صبيحة الأعياد.
سفر خروج العام 1862
كان الاعتقاد، إلى فترة خروج "آبا ماهاري" من قندر بحثاً عن أرض الميعاد، بأنّهم البقية الباقية من إسرائيل، لم يعد لها من فرع سواهم. فالجماعة القاطنة بين قندر وإقليم تيغراي منقطعة إلى أبعد حد عن يهود الهضبة اليمنية، على المقلب الآخر من البحر الأحمر، أو عن يهود وادي النيل، الذي ينبع فرعه الأزرق من بحيرة تانا (60 كلم جنوب مدينة قندر).
هذا في مقابل ارتباط كنيسة "التوحيد" الأرثوذكسية الأثيوبية الهيكليّ بالكنيسة القبطية في مصر (حتى العام 1959).
مع ذلك، أشار أكثر من حبر في مصر إلى وجود يهود "ضائعين" في بلاد السودان وكوش (الحبشة)، يتحدّرون من قبيلة "دان" التوراتية، بل أفتى الربي داود ابن زيمرا "رادباز" (المولود في الأندلس، و"الحاخام باشي" لمصر مع بداية الحكم العثماني لها) بيهودية حبشيين في القاهرة، امرأة و"عبد" معتق، باعتبارهما من نسل دان.
يوم أفتى رادباز بذلك كانت لا تزال لـ"بيتا إسرائيل" مملكة جبالية يحاربها أباطرة الأسرة السليمانية، وتشحذ فيها ذكرى المملكة نصف الأسطورية "يوديت" (10ق.م.) الهمم.
أما يوم عقد "آبا ماهاري" وأنصاره على الخروج من الحبشة، فكان "الاستقلال الملكي" أثراً بعد عين، نوستالجيا مسكوبة في المرويات الشعبية عن آخر "ملوكهم" المستقلين، جدعون.
ما ضاقت الجماعة ذرعاً به عام 1862، هو المحاولات الحثيثة المبذولة لتنصيرهم، ليس مباشرة من قبل الإمبراطور ثيودروس الثاني، بل من قبل بعثات تبشيرية بروتستانتية سمح لها ثيودروس بالعمل موقّتاً، شرط الالتزام بعمادة المهتدين في الكنيسة الأرثوذكسية.
نوع من "تلزيم" فريد من نوعه في تاريخ الأديان، انسجم مع قناعة لدى المستشرقين البروتستانت بأنّ الكنيسة الحبشية أقرب كنائس الشرق إليهم، نظراً لتقيّدها بالإطار التوراتيّ، وعزلتها النسبية (وقبلهم ببضعة قرون عوّل الرهبان اليسوعيّون، هم أيضاً، على كثلكتها).
اعتبر "الفلاشا" أن من يسقط منهم في أحابيل المبشّرين نجس ينبغي مقاطعته، ورفعوا العرائض للإمبراطور احتجاجاً، وسرت بينهم الشائعة بأنّ ثيودروس على وشك إرغامهم على العمادة الجماعية.
التقط "آبا ماهاري" اللحظة، واعتبرها علامة ظهور المخلّص.
وكما قوم موسى، تفشّت في قوم آبا ماهاري الأوبئة في المسير، واشتدّ عليهم الجوع والعطش وقطاع الطرق، وغرق قسم كبير منهم وهم يحاولون عبور نهر "تاكازي" (من ناحية السودان).
ومن جملة ما يروى أن آبا ماهاري حاول شق النهر بعصاه كما فعل موسى. قلّة تمكّنت من العودة إلى قندر، لكن بينهم من كرّر المحاولة "المسيحانية" في السنوات التالية.
"بيتا إسرائيل": جماعة أنتجها التاريخ الأثيوبي
يرجّح ستيفان كابلان في كتابه المرجعي عن تاريخ الفلاشا أن تكون الجماعة نتاج جملة من الأحداث التي شهدتها الهضبة الأثيوبية الشمالية بين القرنين 16 و17، أكثر منها نتيجة لهجرة يهودية قديمة، سواء كان مصدرها مصر أو اليمن.
وقد سبقه مكسيم رودنسون إلى تفسير شدّة تعلّق الثقافة الأثيوبية ككل، بأسفار العهد القديم من الكتاب المقدّس، على أنها نتيجة محاكاة نصيّة لهذه الأسفار، أكثر منها نتيجة لتأثيرات يهودية مباشرة وحيّة.
فالملحمة الأثيوبية "مجد النجاشية" (كبرا نغست) تنطلق من زواج الملك سليمان من ملكة سبأ (الحبشية هنا)، التي عادت من بيت المقدس بابن آخر في بطنها من سليمان، هو منليك الأوّل، وإلى منليك هذا أعادت الأسرة الإمبراطورية السليمانية أصلها، هي التي تنسّب إليها كل الأباطرة من القرن 13م حتى هيلاسيلاسي (وحتى الديكتاتور "الماركسي اللينيني" منغستو هايلي ميريام الذي تخلّص من هيلاسيلاسي خنقاً، فقد اختار الجلوس على الكرسي نفسه الذي كان للأخير، في حرص على أسطورة الاستمرارية السليمانية هذه، ولو في ثياب "المادية التاريخية").
يصعب بالنسبة إلى كابلان اختيار اسم محدّد لـ"الفلاشا". حين كان للجماعة مملكتها المحليّة الجبلية لم يكن هذا اسمها، وحين خسرت استقلالها راج الإسم التحقيريّ لها، بعد أن حرم أبناؤها الأرض والفلاحة.
ولئن كانت الحوليات الأثيوبية تعجّ بالأخبار عن جماعات توصف بـ"الأيهود"، فهذا اللفظ في أثيوبيا العصر الوسيط نادراً ما وجّه ليهود، بل لجماعات تعتبرها الكنيسة الرسمية هرطوقية، مع أنّها تؤمن بيسوع المسيح مع حرصها على حرمة "السبتين" (السبت والأحد) أو تعتبر أنه ولد إنساناً، ثم تألّه.
في المقابل، تنكر جماعة "بيتا إسرائيل" أن يسوع هو المسيح المنتظر، فالأخير لم يأت بعد، لكن تسميتها "بيتا إسرائيل" توقعنا أيضاً في الالتباس. ذلك أنه، في الحوليات الأثيوبية، كان أعضاء الأسرة السليمانية المسيحية الحاكمة هم الذين يوصفون قبل سواهم، بـ"الإسرائيليين"، ما داموا أحفاداً للملك الأورشليمي الحكيم سليمان ابن داود.
أقوال جاهزة
قصّة انتقال الفلاشا من أثيوبيا إلى إسرائيل... جماعة انقلبت من حال إلى حال في عقود
كانوا يعتقدون بأنهم البقية الباقية من إسرائيل، ولم يعد لها من فرع سواهم... قبل أن يخرجوا من ديارهم بحثاً عن أرض الميعاد ويصدمهم وجود جماعات يهودية غيرهم
ديانة قائمة بذاتها
أما مصطلح "اليهود" فلم يكن رائجاً بين "الفلاشا"، ولو أنّ الرحالة الإسكوتلندي جيمس بروس الذي "اكتشفهم" في القرن الثامن عشر، على هامش بحثه عن منابع النيل، صنّفهم كذلك، وأثار بذلك "غريزة" المبشّرين.
في كتابها الصادر لتوّه بالفرنسية عن دار البان ميشال، "يهود أثيوبيا. من قندر إلى أرض الميعاد"، تشدّد الباحثة الأنثروبولوجية ليزا انتيبي-يميني على دور المبشرين البروتسانت في جذب اهتمام يهود أوروبا بالفلاشا من ناحية، وجعل الفلاشا يشعرون بأنهم يهود من ناحية أخرى.
لا مكان للعبرية في ديانة الفلاشا. معظم الصلوات باللغة "الجعزية" القديمة، وأحياناً بلهجة "الأقوا". وكتاب "أوريت"، باللغة الجعزية، لا يأخذ شكل "اللفات" مثل "لفات أسفار التوراة" عند سائر الجماعات اليهودية.
لجماعة "بيتا إسرائيل" تراث أدبي مكتوب متعدّد، فيه كتب من أصول سريانية أو عربية، وكتب أكثر محلية، ومعظمها متأتٍ من المكتبة الكنسية المسيحية الأثيوبية نفسها، وليس هناك في كل هذا ما يشبه تراث الميشنا والتلمود في اليهودية الربّية.
في المقابل، التزامهم صارم بحرمة يوم السبت. تغرق قراهم بالعتمة منذ مساء الجمعة. لا يتناولون فيه غير الأطعمة الباردة، ويجهلون التراث التلمودي الذي يقتضي إشعال نار الشموع قبل الغروب، ووضع الأطباق على نار خافتة لبقائها فاترة. تحرّم ممارسة الجنس في السبوت عند الفلاشا، فيما هي مباحة، بل مستحبة، في التلمود.
وبشكل موازٍ تقريباً للسائد عند مسيحيي الحبشة، يكثر الفالاشا من أيام الصوم... كل اثنين وخميس، وكل أول وعاشر و12 و15 و29 من كل شهر، ويعيّدون عند مشاهدة كلّ قمر بدر.
أما رجال الدين في جماعة "بيتا إسرائيل" فهم أشبه بإكليروس الكنيسة الأثيوبية، يتزوجون ولا يطلقون، ومنهم الكهنة ومنهم الرهبان. ودور عبادتهم لا تسمّى "كنساً" بل مساجد، ومعظمها من طين وقش، تتم الصلاة فيها وقوفاً، ويستعان بآلات موسيقية مثل "المقوامية" والمزهر والطنبور.
ويقسّم المسجد الفلاشي بين فناء، ومصلى، و"قدس أقداس"، أي الحجرة التي لا يدخلها إلا الكهنة، وتوضع فيها الكتب ومسلتزمات الشعائر.
ولئن كان تصوّر نصّي عن هيكل سليمان قد اعتمد في عمارة الكنائس المسيحية في أثيوبيا، فإنّ ما تميّزت به الفلاشا، أو "بيتا إسرائيل"، أنّها الجماعة الوحيدة المدمجة في "العالم اليهودي"، التي ظلّت تقدّم الأضاحي الحيوانية قرب أماكن عبادتها، في حين اعتبرت اليهودية التاريخية، تلمودية كانت أو قرّائية، أنّ لا قرابين بعد ضياع الهيكل.
تحاكي العمارة المألوفة للكنائس في أثيوبيا نموذج هيكل سليمان. أما "بيتا إسرائيل" فكانت الجماعة الوحيدة في "العالم اليهودي" التي ظلّت تقدّم الأضاحي الحيوانية قرب مساجدها. الجماعات الأخرى حصرت ذلك بالهيكل، وانقطعت عن الأضاحي بعد ضياع الهيكل، في حين أن صدمة "فلاشا" كثر عندما نقلوا إلى إسرائيل في الثمانينيات من القرن الماضي، كانت حين علموا بدمار الهيكل.
أثر يعقوب فايتلوفيتش: تطبيق نظرية "القبيلة الضائعة"
لم ينظر الفلاشا إلى أنفسهم، على امتداد القرون، كقبيلة ضائعة من أسباط إسرائيل التوراتية، بل كإسرائيل الوحيدة المستمرّة. سيتبدّل الأمر مع الاتصال اليهودي الأوروبي الحديث بهم.
بعد سنوات قليلة على خروج آبا ماهاري وأنصاره، سيصل إلى مدينة قندر أستاذ اللغات الأثيوبية في باريس، جوزيف هاليفي، عام 1867. استعصى عليه أن يقنعهم بأنّه هو أيضاً من "الفلاشا". فلاشا وأبيض؟ استهجنوا وضحكوا. أما هو فلقى ضالته الرومانسية: بشر يشهدون على ما كانت عليه شريعة موسى في غابر الزمان.
وعدهم هاليفي بالمساعدة وشد الأزر من يهود أوروبا، ليقابل حين عودته إلى باريس باللامبالاة والتشكيك بروايته الغرائبية. هذا في وقت اشتد الخناق على الفلاشا، فنهاية القرن التاسع عشر كانت فترة "التنصير بالمجاعة"، وظهور طائفة كاملة من الفلاشا المرتدين، أو "الفلاشا مورا" من "عبّاد مريم"، وهؤلاء علقوا في منزلة بين اثنتين: رفض الأمهرا مخالطتهم، ونبذهم أهلهم.
يمرّ أربعون حولاً، ويأتي يعقوب فايتلوفيتش إلى قندر. اشكينازي بولندي من لودز، وتلميذ قديم لهاليفي. استطاع إقناع البارون دو روتشيلد بتمويل رحلته.
عندما قال لهم فايتلوفيتش إنه يهودي مثلهم، أجابوه بأنّها حجّة كل البيض الكذابين، يريدون الإيقاع بهم لنشر الإنجيل، ولم يعد من بني إسرائيل سوانا، وأنّ أبيض وعد الاهتمام بحالنا قبل أربعين عاماً ولم نره بعد ذلك، وأنّهم حاولوا إيجاد طريق القدس غير مرة، ويبدو أن مكانها احتجب في الغيب.
أعجب فايتلوفيتش بشعور الفلاشا بالاختلاف الشديد مع جوارهم، وغالى في تقدير الاختلاف الفيزيولوجي بينهم كساميين، وبين الآخرين. اعتبرهم من قبيلة "دان" الضائعة منذ آلاف السنين، وأنّ عليه "تصحيح" الانقطاع، وإعادة الوصل: تقريبهم قدر الإمكان من الجذر المشترك بين اليهود، وبالأخص نبذ الرهبنة، وايقاف القرابين الحيوانية، والتخفيف من قوانين الطهارة، وإدخال رموز يجهلها الفلاشا، كنجمة، داود وإضاءة الشموع عشية السبت والقلنسوة.
شكّكت "الآليانس"، أو "الاتحاد الإسرائيلي العالمي"، المتحمسة للنموذج الجمهوريّ الفرنسيّ، والمنهمكة بـ"تحضير وتنوير" يهود الشرق، بما أخبر به فايتلوفيتش، وأرسلت حاييم نعوم، حاخام الأستانة (والحاخام الأكبر للدولة العثمانية لاحقاً)، إلى قندر.
عاد نعوم برأي مخالف: ليسوا يهوداً، وينبغي عدم التلاعب بعقولهم، وذهنيتهم بدائية لا تسمح بتطبيق مناهج "الآليانس" عليهم، على غرار يهود سوريا أو المغرب، ولا بأس من تشجيعهم على الهجرة من القرى إلى المدن الكبرى، فالاحتكاك بالأوروبيين قد يرفع من شأنهم يوماً، ثم نرى.
صدمة "فلاشا" كثر عندما نقلوا إلى إسرائيل في الثمانينيات من القرن الماضي، كانت حين علموا بدمار الهيكل... عن يهود إثيوبيا وكيف اكتشفتهم إسرائيل وضمتهم إليها
بعكس "الآليانس"، كان فايتلوفيتش متديناً وصهيونياً في آن واحد. لم يخفِ حماسته لحمل الفلاشا على الهجرة إلى فلسطين. لم يجد الأذن الصاغية في "الوكالة اليهودية". أقام مجموعة من المدارس في إريتريا وأثيوبيا، وكلّف تامرات ايمانويل، الذي أرسله لتلقي العلم في أوروبا، بإدارتها.
لم يتحمّس ايمانويل لدفع الفلاشا إلى الهجرة من الحبشة، مع أنّه سيختار شخصياً، بعد أن فقد حظوته كأحد مستشاري الإمبراطور هيلاسيلاسي، أن يمضي بقية حياته في إسرائيل.
بالتزامن، وجدت نزعة لدى الفرقة التي ظهرت بين الأفرو-أميركيين في القرن التاسع عشر، وعرفت بـ"العبرانيين السود"، إلى الهجرة إلى أثيوبيا، وحاول رهط منهم إقامة مستوطنة فيها بالقرب من قرى الفلاشا.
قانون العودة... وقانون التوبة
التبس موقف الدولة العبرية من الفلاشا لعقود. شجعت برنامجاً تعليمياً لهم في أثيوبيا ثم تراجعت عنه. حدثت الانعطافة في السبعينيات، بتحريك من الجمعيات اليهودية الأميركية، في الفترة نفسها التي اعتبرت فيها الجمعية العامة للأمم المتحدة الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية.
وجدت هذه الجمعيات أنّه من المناسب درء تهمة كهذه، بإعادة اكتشاف يهود سود البشرة، وتجديد حركة الهجرة إلى الدولة الصهيونية، بهم.
من جانبها، اعتبرت الحاخامية الكبرى في القدس بأنّ "بيتا إسرائيل" جماعة يهودية، معتمدة في ذلك على فتاوى رادباز المصري، فصار بإمكانهم الانتفاع من "قانون العودة".
أما أثيوبيا التي قطعت علاقتها مع إسرائيل بعد حرب 73، فقد أطيح فيها بالإمبراطور هيلاسيلاسي في أيلول 1974، وسيطرت عليها زمرة "الديرغ" (الحكومة العسكرية المؤقتة لأثيوبيا الاشتراكية)، ومعها مجموعة من الحروب الأهلية، فكان هذا هو سياق موجات نقل الفلاشا إلى إسرائيل.
من بضع مئات في السبعينيات، بات عددهم فيها 125 ألفاً اليوم، وصار لهم نواب في الكنيست منذ 1996.
بعد مجاعة 1984 ونزوح مئات آلاف الأثيوبيين نحو السودان، بمن فيهم الفلاشا، قام الموساد الإسرائيلي بالتنسيق مع حكم النميري في السودان، بنقل الآلاف عبر شركة طيران بلجيكية. عرفت هذه بـ"عملية موسى".
في مناقضة للسردية الملحمية الرسمية حول هذه العملية، تكثر الشهادات عمّا تعرّض له الفلاشا أثناءها في الطريق إلى مخيمات النزوح وضمنها، وطول الانتظار لأشهر وسنوات، للتثبت من عدم تسرّب أسماء غير مدرجة على القوائم، والابتزاز الجنسي للنسوة منهم من عملاء "الموساد" لوضعهم على رأس القوائم.
وبما أنّ الفلاشا لم يقعوا ضحايا لـ"الهولوكوست النازي"، ولم يتعرضوا لتنكيل خاص بهم في فترة الغزو الإيطالي أيّام موسوليني، فإنّ عذابات "السفر إلى السودان" هي التي تحوّلت بالنسبة إلى الطائفة المعاد تشكيلها في إسرائيل، إلى سردية "ذاكرة الآلام" الخاصة بهم.
خلال ذكرى المهاجرين الأثيوبيين الذين قضوا على الطريق إلى إسرائيل
أما عملية "سليمان" في أيار 1991، فنُظّمت في وقت حوصرت أديس أبابا بالمتمردين المتأهبين للإطاحة بمانغستو، وسُيّر فيها جسر جوي إلى مطار اللد، لنقل 15 ألفاً من الفلاشا في يومين، وهنا بدأت مشكلة جديدة: الأسماء غير المدرجة في القوائم، وخصوصاً مشكلة "الفلاشا مورا"، الذين تنصّروا في العقود الماضية ويريدون الهجرة إلى إسرائيل.
الفلاشا مورا
ظهر عندها التناقض بين قانون العودة "المدني" وبين الشريعة اليهودية (الهالاخاه). لا يلحظ القانون حق انتفاع المرتدين عن اليهودية وأبنائهم منه، في حين تلحظ الشريعة باباً لـ"التوبة" عبر طقوس معينة، أي أنه بإمكان "الفلاشا مورا"، الهجرة إلى إسرائيل، بشرط "التوبة" والعودة إلى اليهودية، مع أنّ قسماً كبيراً عاد ونشط في كنائس إنجيلية حالما حصل على الجنسية.
إعادة ختان المختونين
وفقاً لليزا انتيبي يميني، فإن الفلاشا أكثر المعترضين على السماح لـ"الفلاشا مورا" الذين اعتنقوا المسيحية، بالهجرة. ليس فقط لأنهم خانوا الجماعة، بل لأن المعادلات المعمول بها في إسرائيل يمكن أن تنقلب لمصلحة هؤلاء المرتدين السابقين.
فـ"بيتا إسرائيل" رفضت من الأساس أن تعامل كجماعة منحرفة يُراد استتابتها، هي التي كانت قبل ذلك تصنف نفسها على أنّها الشعب المختار الوحيد. والحاخامية الكبرى في إسرائيل اعترفت بيهودية "بيتا إسرائيل" دون أن تطلب منهم التوبة، لكنها في المقابل لم تعترف برجال دينهم، "القزوتش" من ذوي العمامات البيضاء، بل ارتأت الحاخامية منتصف الثمانينيات أنّه يلزم اجراء شعيرة شديدة الفظاظة للفلاشا، إعادة ختان المختون، "هاتافات دم بريت"، فكانت عاصفة احتجاج، وجرى التراجع عن شريعة كهذه، انما بقيت مسائل الزواج والطلاق والدفن في عهدة الحاخامية الكبرى، وليس "القزوتش".
صدم الفلاشا بأشياء كثيرة حالما وجدوا أنفسهم في دولة إسرائيل.
بعضهم أصابته النوبة لأنّ المشروبات الغازية، بما تحويه من خميرة، مسموح بها في دولة اليهود، وبعضهم لأنه خبأ رماد البقرة الحمراء عند صعوده الطائرة لتقديمه إلى هيكل لم يعد موجوداً. كثير منهم رفض الطب الحديث، وقسم منهم استطاع الترويج للطب الروحاني الحبشي بين الإسرائيليين البيض أنفسهم.
لم يسمح لهم بمسلخ خاص، مع أنّهم لا يأكلون ما لا يرونه يذبح أمامهم، ويمزجون اللحم بالجبنة بلا وجل، بخلاف التشديد اليهودي الصارم على تطبيق الأمر الإلهي بعدم طبخ الجدي بلبن أمه.
الذين "تشتمّ منهم رائحة الماء"
ومن المسائل المستفزة، أن الحاخامية الكبرى تحذّر اليوم "الفلاشا مورا" من أن يأكلوا من عند الفلاشا "بيتا إسرائيل"، تحت طائلة سحب الاعتراف بيهوديتهم. فالفلاشا بيتا لا يزيلون الدم تماماً عن اللحم كما تقتضي شريعة الهالاخاه، بل يغسلون اللحم بالماء عوض سحب كل الدم منه بالتمليح... ولطالما هزأ المسيحيون بهم في الماضي من كونهم يهرعون إلى جدول ماء للتطهّر من النجاسات ليل نهار، فوصفوهم بأنّ "رائحتهم ماء".
بعد سنوات قليلة على خروج آبا ماهاري وأنصاره، سيصل إلى مدينة قندر أستاذ اللغات الأثيوبية في باريس، جوزيف هاليفي، عام 1867. استعصى عليه أن يقنعهم بأنّه هو أيضاً من "الفلاشا". فلاشا وأبيض؟ استهجنوا وضحكوا. أما هو فلقى ضالته الرومانسية: بشر يشهدون على ما كانت عليه شريعة موسى في غابر الزمان
في الأساس، حاولت إدارة الهجرة تفادي تكرار نموذج توطين اليهود الشرقيين المزراحيم فيها، في تجمعات سكنية على حدة، عرفت بـ"مدن التطوير" في الخمسينيات، فكانت النتيجة تشتيت اليهود الأثيوبيين في كل المدن، وبقائهم معزولين مع ذلك في الحي الأفقر، ونفور قسم كبير من "البيض" من مخالطتهم، بدءاً من حضانات الأطفال.
ومع الهجرة السرية للعمالة الأريترية والأثيوبية والسودانية إلى إسرائيل، زاد ما يتعرض له الفلاشا من "عنصرية بيضاء"، مثلما زاد رفضهم هم، لدخول إخوة لهم في الجلدة، إلى إسرائيل، مع أنّه تكثر بينهم موضة "السفرات التراثية"، والعلاجية-السحرية، إلى أديس أبابا وقندار.
ولعلّ أكثر ما أساء إلى الفلاشا في إسرائيل، "قضية الدم" عام 1996، عندما كشفت الصحافة أنّ جميع ما تبرعوا به من دم إلى المستشفيات منذ وصولهم كان يجري التخلص منه، بسبب ارتفاع نسب الهيباتيت بي والأيدز والمالاريا، وكتم الأمر لعدم خدش مشاعرهم.
وهذا من جملة ما دفع قسماً كبيراً من الشبان الأثيوبيين الإسرائيليين إلى بلورة "ثقافة احتجاجية" متأثرة برموز النضال الأسود في أميركا الشمالية، بل أنّ ليزا انتييبي - يميني تشدّد على أنّ الانتماء إلى مشترك "الثقافة السوداء الكوكبية" والتماهي تحديداً مع الموسيقى الأفرو-أميركية والجامايكية، باتا سمة أساسية للاجتماع الأثيوبي في إسرائيل.
خلال مظاهرة ضد العنصرية في إسرائيل 2012
نقلت إسرائيل "الفلاشا" من حال إلى حال. ثلثهم ولد فيها اليوم، والتطوّع بالجندية نسبته الأعلى عندهم، وأكثر أصواتهم لليكود. يتداخل ذلك مع معاناتهم العنصرية بأشكال مختلفة، ما أدى لحركة احتجاج واسعة عام 2015 بعد انتشار فيديو لجندي منهم يتعرّض للضرب على يد شرطيين.
في المقابل، وعلى غرار ظاهرة المطربة اليمنية الراحلة عوفرا هازا، يجري التركيز في إسرائيل على نموذج المغنية والممثلة استير رادا، للتدليل على تجربة "اندماج" ناجحة و"اكزوتيكية".