(1) وفي طريقنا الي التلة المسعورة (تَبا بَارٍع ) التي لاتهدأ من قصف الهاونات ، ووابل الاسلحة الخفيفة البرين والكلاششن وما يماثلهما، توقفنا عند وادي ماي أَتكموم ، الذي تغني بعذوبة ينابيعه الفنان المبدع سعيد عبدالله ادام الله عليه الصحة والعافية ، وأخذنا حمام شمسي ، ولم يستمر الوقت كثيرا حتي عاود القصف المدفعي لخلفية دفاعات قندع حديثة التكوين ، مما خلا الوادي في دقائق وجيزة ، ولكن لم تنقطع الحركة فيه ، لانه الممر الوحيد الذي يرابط عبر روافده المتاريس الامامية ، وكانت القذائف تسقط امامنا محدثة دوي واهتزاز يهز الارض من تحت اقدامنا ، وادخنة تتصاعد كضباب الربيع تتمدد من بين أغصان الاشجار الكثيفة ، ونجد اثار ما خلفه السقوط في طريقنا ، من شظايا بقايا الانفجار ، واغصان الشجر مرمية علي الممر ، وحفرة احرقت العُشب الجميل أو قذفت بها هباء منثورا ، وعرت الارض من كسائها الرائع ، اشبه بقرح العلة في رأس ادمي .
(2) وعند منعطف الصعود الي التلة ، أدركنا بثلاثة فتيات اسمائهن فرويني ، شريفو ، قمجا ، وكانت بحوزتهن جركانة مملوءة بالماء تسمي فاشستي ، لانها أكبر بربع الكمية من الجركانات العادية ، لذا سميت بذلك الاسم في عرف الميدان نسبة لكبرها عن قريناتها ، وتناول رفيقي منهن الجركانة رغم رفضهن والحاحهن ، ومع ذلك سحب منها ووضعها في كتفه وانطلق مسرعا ، صاعداً جبل شقي ، تَقل فيه الحجارة الصلبة والتربة المتماسكة ، يحتوي علي كتل صخرية رملية تعرض الماشي عليها للانزلاق والاضرار البليغة ، لهذا قد صمم المقاتلين ممشي آمن للافراد ، ولكنه مكشوف احياناً امام قناصات العدو .
(3) وبعد عدة دقائق ، سَحبتُ الجركانة من رفيقي ، ووضعتها علي كتفي وللحقيقة في ثقافة الميدان ، لاتنتظر رفيقك او رفيقتك حتي تنهار من التعب ، وانما تبادر تناول الشئ المحمول قبل ان تفتر قواه ، ولاني كنت أحس بفتر غير معتاد ، خبئت الامر كعادة الثوار ، لم يدم دوري لثواني فقد تمايل حيلي ، وظهر ذلك في خطواتي ، مما تدخلت (قُمجا) ونزعت المحمول مني ، وحينها هويت علي الارض حتي ظن رفاقي اني اصبت بعيار ناري أو قذيفة مورتار ، واظلمت حولي كل شئ ، تقبلني رفيقي ووضعني بين يديه ، وجنبني في زاوية من الطريق ،، وشعر بحرارة شديدة علي جسمي ، وتأكد له سلامة الاصابة .
(4) وصب الماء علي راسي من زمزميته ، وما تبقي من الماء خلطه ببدرة (جلكوز ) وسقاني كما يسقي الطفل الرضيع ، وقبل وصول الجرعة الي المعدة ، قابلتها نافورة رمت مابها الي الخارج ، فقدت الحيل حينها، ولكني شعرت براحة ، ولان القصف مستمر ، تحركنا حتي لانصَاب في العراء بأذي من جراء القصف وعند الوقوف لم اتمالك نفسي وسقطت مغشياً للمرة الثانية ، وزغللت عيني مما استدعي الامر الي حمالة (باريلا) ، واستعصي بسبب ظروف القصف ، ارسال نداء الاستغاثة ، فحاولا رفعي ، ولكن الامر ليس بالسهل في حالة الصعود الي الاعلي ، لذا وضعاني علي حواف جذور شجرة ، واسندا راسي بعشب اخضر ، وانطلق رفيقي كالصاروخ يزحف حينا ، ويجري حينا اخر ، وقمجا بقيت بجواري ، تضع الكمادات في جبهتي ، وتحركني يمنا ويساراً بغرض الاطمئنان علي حالتي ، حتي حضر رفيقي ومعه شابان ، أعادوني الي الخلف الي عيادة الكتيبة . واكتشف لاحيقاً انها الملارية اللعينة .
(5) عدت الي الدفاع بعد اسبوعين تقريباً من العلاج وفترة النقاهة ، وبعد يومين منالعودة الي فصيلتي جاء الينا أمر تحرك الي منطقة (كُوبي ) الجبهة الشرقية من جبل (بيزن ) ،، ففي رحلة صعود ذلك الجبل الصلد قصة اخري. وموعدنا مع احداث الحلقة القادمة .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق