أسمح لنفسي بالفرار من سلسلة الحديث عن ذكريات أكتوبر لأتوقف لحظات عند أحداث معاصرة، أعتقد أن علينا أن نتوقف طويلا أمامها.
فالأحداث الدموية التي عرفتها باريس يوم
الجمعة 13 نوفمبر تفرض علينا أولا وقبل كل شيئ وقفة تحليلية واعية نحاول من
خلالها أن نفهم حقيقة ما حدث، بدون الوقوع في شراك المعلومات التي تقدمها
وسائل الإعلام الفرنسية، والتي يتضح أنها تنطلق دائما من نهج فكري عقدي
وعقائدي تطبخه مؤسسات معينة، معظمها يتصرف بالأسلوب الماسوني.
والتسابق نحو التنديد بالإرهاب والذي اندفعت
نحوه جل القيادات العربية هو أمر متوقع ومنطقي عندما نعرف أن القوم يرفعون
المظلات عندما تتوسط الشمس كبد السماء في لندن أو باريس، لكن هذا يجب ألا
يحول بيننا، كمثقفين وطنيين، وبين طرح التساؤلات المشروعة عما حدث، لتوقع
ما يمكن أن يحدث.
ولقد تابعت الكثير من التحليلات الفرنسية منذ
مساء الجمعة وحتى كتابة هذه السطور، وكلها تحليلات نابعة من المنطق
الفرنسي، بما فيها تحليلات قدمها من يحملون أسماء مسلمة، ولم تقدم وسائل
الإعلام الفرنسية أي تحليل لغير هؤلاء، ومنهم من عرف عنهم الارتباط
بالمصالح الأمنية الفرنسية، والذين نطلق على أمثالهم في الوطن العربي صفة
“علماء السلطان”، والمعنى واضح ومفهوم.
وبداية، لم يتوقف أحد عند تاريخ الأحداث، وهو
يوم الجمعة 13، وهو يوم يتشاءم منه الغربيون والفرنسيون على وجه التحديد،
وللعلم فإن اختيار هذا التاريخ مرتبط بما يتفادى الكاثوليكيون التعمق فيه،
وتناوله دان براون في روايته “شفرة دافنشي”، مشيرا إلى أنه تاريخ مذابح
رهيبة ارتكبت بأمر الكنيسة ضد كل من رفض الإيمان بنتائج مؤتمر نيقية
(Nicée) الموسكوني سنة 235 م، الذي رسم الخط العقدي للمسيحية الكاثوليكية
(الإيمان بالثالوث والتناقض مع الآريوسية وألوهية المسيح ونفي أي علاقة
أسرية بمريم المجدلية وتثبيت يوم الفصح) ولقد كانت تلك المذابح أقرب إلى
عمليات قتل جماعي، تلتها بعد ذلك ماقامت به محاكم التفتيش الإسبانية ضد
المسلمين واليهود على حدّ سواء، وقبلها عمليات الإبادة التي قام بها
شارلمان (782 م) وبعدها مذابح شارل التاسع في فرنسا ضد البروتستنت، والتي
قتل فيها عشرات الآلاف في عدة مذابح من بينها مذبحة سان برتيليميو الشهيرة
(أغسطس 1572).
وهكذا نجد أن التشاؤم من يوم الجمعة ترجمة لعقدة ذنب لعلها تفسر لماذا لم يتوقف أحد عنده عبر جل التعليقات الفرنسية على أحداث باريس.
وتأتي هنا قضية أخرى، يجب أن تذكرنا بأحداث
ميونيخ 5/6 سبتمبر 1972، والتي احتجز فيها مناضلون فلسطينيون عددا من
الرياضيين الإسرائيليين، وعنصر التساؤل هنا هو التعتيم الغربي على مصدر
الرصاصات التي قتلت الرهائن والخاطفين على حد سواء، والتي تقول معظم
المصادر أنها لم تكن رصاصات فلسطينية، بل إن عملية الاقتحام التي نفذتها
مجموعة مشتركة من الإسرائيليين والألمان فتحت النار على الجميع، وهو ما
يعيد إلى الذاكرة قضية طائرة “إير فرانس″ التي اختطفت في مطار الجزائر في
نهاية 1994، وانتهت بقتل الخاطفين وتحرير الرهائن.
وسنجد هنا تبريرا منطقيا لكل التساؤلات التي
ارتفعت آنذاك عن سبب عدم استعمال القنابل المخدرة للقبض على “الجناة”
أحياء، واستجوابهم لاكتشاف الأيدي المدبرة للاختطاف، وحقيقة الادعاءات بأن
الخاطفين كانوا يريدون تفجير الطائرة فوق باريس، وسنجد نفس التساؤلات مع
تصفية الإرهابي خالد خلخال (سبتمبر 1995) ثم محمد مراح (مارس 2012) في
باريس.
وأنا شخصيا لست ضد التنديد بالعمليات
الإرهابية، علما بأن كثيرين ممن يتعرضون لها اليوم كانوا يسخرون منا في
التسعينيات عندما كنا نقول لهم بأن قصة “فرانكنشتاين” هي قصة تتكرر عبر
الزمان، وبأنهم سيذوقون يوما أضعاف ما كنا نعاني منه.
لكنني أتصور أن كل مؤسساتنا السياسية والحزبية
يجب أن تقوم بإعداد دراسات موسعة حول دور الغرب في العمليات الإجرامية
التي عرفها الوطن العربي عبر تاريخه الطويل، ومنطلق الدراسات هو رفض
الادعاءات الغربية بارتكاب المسلمين لمجازر جماعية منذ أحداث الفتنة
الكبرى، والإثبات بالحجة والدليل أن الأوربيين قاموا بآلاف المذابح، سواء
ضد المسلمين أو حتى ضد مسيحيين لهم مذاهبهم التي تختلف عن المذهب
الكاثوليكي.
ويكفي أن نذكر بالمذابح التي قام بها نابليون
بونابرت في يافا (مارس 1799) والتي قتل فيها المئات من أسرى الحرب المسلمين
والمسيحيين الشرقيين، ويمكن أن نذكر بما قام به من يسمونهم “الرواد” في
أمريكا الشمالية والجنوبية ضد السكان الأصليين، وما قامت به إيطاليا في
ليبيا وفرنسا في الجزائر، وما يقوم به البوذيون اليوم في ميانمار ضد
المسلمين.
ولن أطيل، لأن تصرفات قياداتنا السياسية
والدينية تجاه ما يسمى الإرهاب أصبحت فضيحة، لأنه تكرار لما نعبر عنه في
الجزائر بعبارة “مهبولة، وقالو لها زغردي”، أو ما يقول عنه المشارقة،
“عبيطة وأمسكوها دفّا”.
ويجب أن ننتهز كل فرصة لكل نذكر الغرب بأن أول
عمليات الاغتيال الإرهابي في المشرقي كانت باغتيال صهاينة للورد موين في
القاهرة (نوفمبر 1944) وبأن أول عمليات اختطاف طائرة مدنية قامت بها
المخابرات الفرنسية في 22 أكتوبر 1956 باختطاف طائرة الزعماء الجزائريين
الأربعة، أحمد بن بله وحسين آيت أحمد ومحمد بو ضياف ومحمد خيضر.
ولن أطيل، لأن علي أن أعود لمتابعة آخر الأخبار، لعلي أكتشف أنني مخطئ.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق