الأحد، 6 مايو 2018

عشرون عاماً على غياب حالم عظيم


مرت يوم الاثنين الماضي، الثلاثين من أبريل، الذكرى العشرون لرحيل الشاعر الكبير نزار قباني الذي ملأ سماء الأمة شعراً ونثراً، مبشراً بالحرية والحب والسعادة الإنسانية، ومعلياً من كرامة الوطن والمواطن، وداعياً بأن يصبح الإنسان العربي سيداً لمصيره، ورافضاً للتمسك بأهداب الجهل والخرافات والأساطير، ومشجعاً على الإبحار بحيوية نحو كل ميادين المعرفة والعلم التي تخرج الأمة من الركود الفكري لتمد بصرها نحو قيم الحرية والعقلانية والحداثة، ونافراً من كل أشكال الاستبداد الوطني أو الأجنبي، المدني أو الديني، التي تشد الأوطان إلى الخلف، وتحول بينها وبين استشراف المستقبل وامتلاك أدواته.
وفي رده على سؤال صحافي لمن يكتب قال نزار قباني: أكتب للشعوب التي لا يسمحون لها بكتابة رسالة احتجاج أو رسالة حب، ولا يسمحون لها بالضحك وبالبكاء، ولا بالحياة ولا الموت، ولا بإقامة الأعراس، ولا بالسير في الجنازات.
هذا هو الجمهور الذي أصرخ بلسانه، وأبكي بدموعه، وأشاركه فتافيت الخبز والحب والحرية.
وفي أعقاب هزيمة يونيو 1967 كتب نزار قباني قصيدته الشهيرة «هوامش على دفتر النكسة» التي أهاجت مشاعر الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، وعبرت عن غضبها وجرحها، حين قال فيها: «إذا خسرنا الحرب لا غرابة، لأننا ندخلها، بكل ما يملك الشرقي من مواهب الخطابة، بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة، لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة».
وكانت تلك القصيدة سبباً في غضب الأجهزة الناصرية، فصدرت الأوامر بمنع دواوين شعره من التداول، ووقف إذاعة قصائده المغناة، ومنعه هو شخصياً من دخول مصر، لكن ذلك لم يمنع القصيدة من التداول والانتشار من مكان لآخر في مدن الجمهورية.
وتدخل عدد من النقاد والكتاب بينهم رجاء النقاش، لدى وزير الإعلام آنذاك محمد فائق وطالبوه بالعمل على إلغاء هذا المنع، ووقف الحملات العدائية ضد الشاعر في وسائل الصحافة والإعلام، كما نصحوا نزار قباني في الوقت نفسه بكتابة خطاب لعبد الناصر، فاستجاب للنصيحة برسالة رائعة قال فيها إنه أودع في هذه القصيدة خلاصة ألمه وتمزقه، وكشف فيها مناطق الوجع في جسد الأمة العربية، مضيفاً: «إن ما انتهينا إليه لا يعالج بالتواري والهروب، وإنما بالمواجهة الكاملة لعيوبنا وسيئاتنا.
إن قصيدتي كانت محاولة لبناء فكر عربي جديد، يختلف بملامحه وتكوينه عن ملامح فكر ما قبل 5 يونيو. وماذا تكون قيمة الأدب يوم يجبن عن مواجهة الحياة بوجهيها الأبيض والأسود معاً؟ ومن يكون الشاعر يوم يتحول إلى مهرج، يمسح أذيال المجتمع وينافق له؟.
والقضية ليست مصادرة قصيدة أو مصادرة شاعر، القضية هي أن نحدد موقفنا من الفكر العربي كيف نريده؟ حراً أم نصف حر؟ لا أريد أن أصدق أن مثلك يعاقب النازف على نزفه والمجروح على جرحه».
لم تكن بلاغة رسالة نزار وكبريائها الفذ وقوة منطقها ونجاحها في ترجمة القصيدة نثراً، هي ما دفعت الرئيس عبد الناصر لإلغاء تلك المصادرات، بل كان بجانبها أيضاً تدخل سيدة الغناء العربي أم كلثوم لدى الرئيس، نظراً لما كان يحمله لها من محبة واحترام وإعجاب، وقد شدت بعد ذلك بواحدة من أجمل قصائده «أصبح الآن عندي بندقية».
عاش نزار قباني سنواته الأخيرة في بريطانيا مغترباً عن وطنه سوريا، وحين توفي سعي أهله وأحباؤه لإقامة صلاة الجنازة عليه في مسجد المركز الثقافي الإسلامي في لندن، لكن جمعاً من حركات دينية متشددة تنصب نفسها متحدثاً باسم الله، ممن دعا نزار دوماً للتصدي لهم، بنبذ طاعتهم وتقليص نفوذهم وسلطتهم، اعترض طريق الجنازة، وأعلن قادة الجمع أن صلاة الجنازة لا تجوز إلا على المسلم، وقد سخر هو شعره للدفاع عن القومية العربية وعن الحب والعاشقين، وليس للدفاع عن فهمهم السطحي للإسلام، كما أن اعتراضه على هرولة العرب للتطبيع مع إسرائيل، ونقده لخضوعهم للهيمنة الأميركية، لا تنفي عنه ذلك، ولا تبرر الصلاة عليه!
تناسل من هذا الجمع الفظ فيما تلى ذلك من سنوات في إنحاء بلاد العرب، جماعات الإرهاب الجهادي التي ناصبت الفنون بكل أشكالها وأنواعها العداء، واستلبت إرادة الحياة من الناس بالقتل والذبح تدمير التراث الحضاري الإنساني، لكن وعي الشعوب، الذي ساهم في تشكيله شعر نزار قباني، قادر على اقتلاع هؤلاء من أوطانهم، وغلق محاكم التفتيش المنصوبة لكل مجتهد في شؤون الدين أو الوطن، وإبقاء حلم نزار قباني بوطن حر لا يصادر فيه الشعر والشعراء أحياء وأمواتاً، ويشدو بالغناء والقصائد، ويرسم اللوحات وينحت التماثيل، وتضاء فيه قاعات المسارح وشاشات العرض بالفنون الراقية حياً بمدى عمر تلك الشعوب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق