الخرطوم: صلاح الدين مصطفى، نهاد أحمد وهادية ابراهيم
نجومية مطلقة
لم يكن زيدان ابراهيم كغيره من الفنانين الذين لديهم مواسم ازدهار وسنوات ركود وغياب، بل كان نجما متوهجا منذ انطلاقته الأولى في مطلع ستينيات القرن الماضي وسيظل كذلك بأعماله أبد الدهر، كان يُستقبل في المسرح مثل استقبال نجوم كرة القدم بعد إحرازهم للأهداف الحاسمة، ويتزامن ذلك مع الهتاف المحبب "زيزو.. زيزو" كان نجما فوق العادة لذلك انشغل بمرضه الجميع وحزنوا لوفاته.
حيثيات تكريمه
من الأقدار العجيبة أن العام الماضي شهد تكريم العندليب الأسمر وليس في هذا الأمر غرابة، لكن حيثيات التكريم غير المسبوقة كانت هي الخبر، فقد شهد مسرح الفنان الراحل أحمد المصطفى باتحاد المهن الموسيقية حفلاً بهيجاً في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر العام الماضي، وجاء التكريم عرفاناً للفنان العندليب الأسمر باعتباره "عضواً بارزاً وملتزماً بقوانين ولوائح الاتحاد." فانظر الى الحيثيات بين الأقواس!
أما المحتفى به فقد قال في ذلك التكريم: "شكرا لكل الحضور وليس جديدا على لجنة اتحاد المهن الموسيقية أن تكرم أبناءها لكن الجديد هو التكريم المتفرد وأنا ألتزم بضوابط وقوانين ولوائح الاتحاد وهذا صرح عظيم علينا المحافظة عليه".. وقال: "حان الوقت أن نضع في بالنا الالتزام والمحافظة، وأنا سعيد لزمالة الكاشف وعائشة الفلاتية، وقد نهلت منهما وشبعت، وأشكر الشعب السوداني الذي ساندني."
توثيق البروفيسور الفاتح الطاهر
ومن أبرز الذين وثقوا لزيدان البروفيسور الفاتح الطاهر الذي كان ناقدا فنيا وانتهى به المطاف عميدا لكلية الموسيقى والدراما الى أن تقاعد وتفرغ للبحث، حيث كتب في صحيفة الصحافة بتاريخ4/6/1986: "ولد الفنان زيدان ابراهيم بحي العباسية بأمدرمان فى منتصف الاربعينات, بدأ مراحله الدراسية الأولية بمدينة كادوقلى حيث كان يعمل بها والده وعاد مرة أخرى لأمدرمان ليواصل بمدرسة بيت الأمانة والمرحلة الوسطى بمدرسة حي العرب والثانوي بالأهلية أم درمان.
عازف مزمار
يواصل بروف الفاتح ويقول: "فى مرحلة الثانوى انضم الى فرقة الموسيقى المدرسية تحت إشراف الاستاذ محمد احمد قاسم المسؤول عن النشاط الموسيقي بالمدرسة وبدأت موهبته تتفتح كعازف مزمار مؤدٍّ لأغانى الكاشف ووردى والكابلى، تعلم العود تحت إشراف الموسيقار صالح عركى عام 1960 وأصبح يجيد أغانى وردي إجادة تامة مما أطلق عليه لقب وردى الصغير. ورغم عدم اختياره فى احتفالات بخت الرضا باعتبار أن صوته لا يصلح للغناء لم ييأس ولم يفقد الأمل حتى أجيز صوته أمام لجنة الأصوات بالإذاعة عام 1963 وأجيز بالإجماع بعد أن غنى لهم (بالى مشغول يا حبيبي - ماهو عارف- بينى وبينك والأيام) والفضل يرجع الى الشاعر عوض احمد خليفة الذى شجعه ووجهه الى أن وصل الى مايكرفون الاذاعة.
ومشوار زيدان يستحق التوقف لأنه مشوار مر بعدة مراحل يمكن اعتبار المرحلة الأولى ظهوره بفن جديد ورؤية فنية جديدة قدم فيها باقة من الأغانى (بالي مشغول يا حيبي) ألحان عبداللطيف خضر وكلمات عوض احمد خليفه بجانب (ما سألت يوم عليك- لغيرك ما بقدر ألوم- من ألحان السني الضوي)- وأغنية (وداع) وخلال تلك المرحلة تأثر زيدان بالموسيقار الراحل احمد زاهر الذى لعب دورا بارزا فى بناء شهرته ودعم مكانته الفنية فقدم له من ألحانه (معذرة -أكون فرحان-) واستطاع من خلال ما قدم أن يضع قدميه ويتدرج فى النجاح خاصة فى تلك المرحلة التى كانت الساحة الفنية تعج بالعديد من عمالقة الفن.
أما المرحلة الثانية فمرحلة الانطلاق عام 1969 بدأ فيها منطلقا بخطى سريعة حيث قدم (ما أصلو ريدة - قصر الشوق- فراش القاش - فى بعدك يا غالى - ليه كل العذاب) وقد أحدثت ضجة فى دنيا الأعانى لأنها ابتكارات فنية جديدة.
القاش والذكريات
وتعد أغنية فراش القاش بولونيتها الجديدة ومقدمته الموسيقة القصيرة التى كتب كلماتها الشاعر عبد الوهاب هلاوي ولحنها الفنان عمر الشاعر بداية انطلاق الثنائى زيدان وعمر الشاعر ليملآ الساحة الفنية شجنا وطربا. المرحلة الثالثة مرحلة (اخونك- نبع الحنان- غرام الروح كذلك لحن فيها أغنية كلمة عتاب لمين ونشيد ابريل، ومنذ تلك الفترة واصل وقدم العديد من الروائع- الحديث للبروفيسور الفاتح- واشتهر بأدائه الجميل لأغنية المرحوم الشفيع (الذكريات) وأذكر فى أكثر من لقاء عبر الاذاعة وبحضور الفنان الراحل الشفيع وإعجابه يغنيها. وزيدان فنان مرهف اشتهر بالدعابة والنكتة حتى فى الحفلات العامة وله أسلوب شيق فى الحفلات العامة.
ملامح في السيرة الفنية
غنى زيدان لمحمد جعفر عثمان «أسير حسنك، أخونك، ما أصلو ريدا ووسط الزهور وغيرها وكانت له مسيرته الخاصة مع الملحن احمد زاهر في «قصر الشوق» و«قلبك ليه تبدل» و«أخونك» وغيرها.
غنى زيدان لعوض احمد خليفة ومهدي محمد سعيد وعبد الوهاب هلاوي وبابكر الطاهر ومحجوب الحاج، كما أنه كتب ولحن لنفسه، وأدى أعمالا جيدة للملحنين بشير عباس وعبد الماجد خليفة وعبد اللطيف خضر والسني الضوي والفاتح كسلاوي والفاتح قميحة، وردد زيدان أعمال الفنان عثمان الشفيع وابراهيم عوض. واستطاع زيدان مع عبد المنعم الخالدي أن ينتجا ألبوما ناجحا بمرافقة عازف العود عوض أحمودي خاص بأعمال الشفيع.
التيجاني والعباسية
تحدث عنه الشاعر التيجاني حاج موسى في ليلة تكريمه قائلا: هذا شرف عظيم لي وأنا أقدم زيدان إبراهيم والحديث عن زيدان يطول فهو كتاب من الرقة والإحساس والجمال المطلق وأبان أن اسم زيدان الحقيقي هو محمد إبراهيم زيدان ووالدته أم الحسين، وأوضح أن الفنان زيدان ترعرع في حي العباسية بأُم درمان ودرس بمدرسة حي العرب الإبتدائية وكان من التلاميذ الأُدباء والنجباء، وقد ظهر الفنان زيدان ابراهيم منذ بدايته بموهبة فذة، وقال إن زيدان لم يواصل مشواره الأكاديمي لظروف مرت به، وأوضح أن زيدان ابرهيم في البداية غنى لوردي وعبد الكريم الكابلي لكن لم يقتنع أن يكون مقلداً وشق طريقة وجاء الى الإذاعة السودانية في ستينيات القرن الماضي وأجيز صوته عبر الإذاعة السودانية.
ويقول الفنان زيدان ابراهيم عن أثر «العباسية» في حياته: «البيئة لها أثر عميق في نفس الفنان، وقد ساهمت حركة الإشعاع الفني بالعباسية في بعث الإشراق في النفس. وأنا أدين لها بالفضل في تقوية أواصر الفن بداخلي. وإن بعدت عنها بجسمي فأنا قريب منها جداً بقلبي وروحي.. سلام للعباسية والأهل والأصدقاء..»
سر لقب العندليب الأسمر
يقول الناقد ميرغني البكري إن الراحل زيدان يعتبر فقدا كبيرا للوسط الفني وقد كان يمثل امتدادا لجيل الشباب من الجيل الذى سبقه، وأشار الى أن الراحل لديه إنتاج كثير جداً وخالد وثر من الأغنيات، وقال إن الفنان زيدان بدأ بداية كبيرة جدا ً وذلك لأنه بدأ بالغناء بالأغنية العربية، والقصائد التى بدأ بها اختارها له ابراهيم عوض بشير.
وبسؤال الناقد ميرغني البكري عمن أطلق على الراحل زيدان اسم (العندليب الأسمر ) قال : سماه زميلنا المرحوم التجاني محمد احمد شقيق عازف الإيقاع الشهيرعبيد الملقب ب(السنباطي )، وقال ميرغني إن زيدان كان شخصية مرحة وطريفة جدا ً وله علاقات ممتدة مع كل المجتمعات الفقيرة والغنية، وأضاف البكري أن التغطية التى وجدها الراحل زيدان فى مرضه لم تحدث لأي فنان غيره وهذا يؤكد المكانة الشعبية له وسط جمهوره.
الموسيقار انس العاقب ابتدر حديثه قائلاً:" أنا فى حالة من الحزن ولا أستطيع أن أتخيل المجتمع الفني بغير زيدان ولا أستطيع أن أتخيل أني ودعت صديقاً ورفيقاً عزيزاً، فزيدان مطرب غزل بصوته فى خريطة الغناء السوداني، وقال العاقب إن الموت حق لكن زيدان هو ملحمة إن شاء الله سيكتب عنها الناس وهو شخصية لن تتكرر فى كل المجالات لما يختص به من كرم وجود، وقبل أن أعزي نفسي أعزي الزملاء والشعب السوداني ومحبيه وأصدقاءه ففقده يعتبر فقداً عظيماً لأحد قامات وقمم الغناء السوداني".
الاستاذ بكلية الموسيقى والدراما د.محمد سيف قال إن كلماتنا لا تسطيع أن توصل المعنى ولا حتى تستطيع أن توفي حق الفنان الراحل زيدان فهو رجل أنيق ورقيق وصاحب نكتة ومنطلق الأسارير، فهو يمتاز بتعاون متوازن بين الوسط، وأشار محمد سيف الى أن الراحل كانت له أياد بيضاء فى عدة نواحي وجوانب وقال سيف نسأل الله أن يتقبله قبولاً حسنا وأن يلهم آله وذويه الصبر وحسن العزاء.
فاجعة الرحيل
قال رئيس اتحاد شعراء الأغنية السودانية الأستاذ محمد يوسف موسى في حديثه عن الراحل زيدان ابراهيم: كنت أتابع حالته الصحية منذ تواجده بالسلاح الطبي قمت بزيارته قبل مغادرته البلاد الى القاهرة لمواصلة العلاج، مضيفاً أن رحيله كانت فاجعة كبيرة جداً لجميع الشعراء والفنانين والاعلاميين وقد حزنت جداً عند سماع خبر رحيله، وأوضح موسى أن الراحل تغنى له بقرابة الـ16 أغنية من بينها أغنية آخر حب وأول، مضيفاً أن زيدان قد أهدى بعض أغنياته لبعض الفنانين أمثال ميرغني سكر، وأهدى للفنان الاثيوبي ادماس أغنية في قلبي مكانك.
وقال موسى إن أول اغنية قام الراحل بتسجيلها للاذاعة السودانية هي أغنية (بالي مشغول ياحبيبي) من كلمات عوض أحمد الخليفة وألحان عبد اللطيف خضر (ود الحاوي)، وغنى بالفصحى ومن ألحانه أغنية (داوي ناري) للشاعر المصري ابراهيم ناجي، وتغنى أيضاً للعقاد باللغة العربية الفصحى وأغنية مرحباً اكتوبر للشاعر محيي الدين فارس، مبيناً أن الراحل قدم غناء متميزاً وواضعاً بصمته الخاصة في الغناء.
إنسانية زيدان
وتحدث الفنان سيف الجامعة عن الراحل زيدان ابراهيم بقوله: إن الراحل خسارة فادحة للفن السوداني وخسارة للمجتمع الفني وكان يعني الكثير، فقد كان إنسانا طيب القلب، دائم الدعابة وحلو المعشر وكان إنساناً لأبعد ما يمكن أن تكون عليه الإنسانية، موضحاً أن الراحل ساهم بفنه وشعبيته في علاج الكثير من الحالات الإنسانية التي لا تحصى ولا تعد وأنا أعلم عنه الكثير من المواقف الإنسانية إذ كان كريماً ومعطاء ولم أشهد له بإرجاع طلب مساعدة لأحد، وأضاف الجامعة: أنا شخصياً أدين له بالكثير من الود والمحبة منذ بداياتي الفنية الأولى التي خصني بها إذ إنه أول من قدمني للجمهور في كازينو النيل الأزرق عام 1984 وكان ذلك برفقة الفنان الراحل ابراهيم عوض، وقال الجامعة: لقد قاد معنا مؤخراً حملة قوية في العمل الإنساني وزار السجون والمستشفيات وتحرك تحركاً جاداً في الفترة الأخيرة من حياته لصالح الوحدة بين شبري الوطن شمالاً وجنوباً في انتصار واضح للدماء التي تجري في عروقه إذ إن زيدان ينتمي من جهة الأب الى جنوب السودان وكنت أعلم أنه من أكثر الناس الذين أعرفهم حزناً لانفصال الجنوب ولم يفقد الأمل حتى رحيله؛ في أن هذه الوحدة راجحة وعائدة في يوم من الأيام. ألا رحم الله العندليب الأسمر الأخ والصديق والزميل الفنان الجميل الذي ستلبس عليه الأغنية السودانية ثوب الحداد زمناً طويلا وربنا يعوض أمته في الشمال والجنوب وبالأخص في أم درمان هذه المدينة التي صنعته ورعته وقدمته بلبلاً مغرداً لكل السودان، مضيفاً أن تجربة زيدان تجربة عريضة وكبيرة من النواحي الفنية والإبداعية والإنسانية الاجتماعية وهي كتاب يدرس للأجيال الحالية والقادمة وهو نموذج للمثابرة والاجتهاد ولابد أن يأتي الوقت لتوثيقها كاملاً.
توثيق في الإذاعة والتلفزيون
وشارك الراحل عبر العديد من البرامج والسهرات في الاذاعة والتلفزيون كان آخرها برنامج (زمان يافن) ضمن برمجة التلفزيون الخاصة بالعيد في العام الماضي مع المذيع عمر الجزلي والذي قدم عبره زيدان العديد من أغنياته، كما شارك في ذات العام في الفترة المفتوحة ( بينا وبينكم) من تقديم المذيع الطيب عبد الماجد على شاشة التلفزيون القومي، وكرمته الإذاعة السودانية وهي تحتفل بعيدها السبعين وشارك في احتفالات الإذاعة القومية السنوية في الأعياد وكان آخر برنامج استضاف زيدان برنامج ( أيام طروبة) من تقديم الطيب قسم السيد على أثير إذاعة أم درمان، ونظم كل من الاذاعة التلفزيون طيلة يوم أمس السبت برمجة خاصة على الهواء مباشرة عن الراحل زيدان ابراهيم وفاءً لعطائه وللحديث عن أبزر ملامح مسيرته الفنية باستطلاع عدد من الفنانين والشعراء والإعلاميين حول تجربته الثرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق